وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦))
(إِلَّا مَنْ تابَ) رجع إلى الله وتنصل عن المعاصي فبدّل الشرك بالإيمان واستبدل الرذائل بالفضائل (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) بمحو الهيئات عن نفوسهم وإثبات هذه (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يستر صفات نفوسهم بنوره (رَحِيماً) يفيض عليهم الكمالات بجوده ، وهذه هي التوبة الحقيقية. ثم بيّن بعد ذكر التوبة الحقيقية حال أهل السلوك فقال : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي : لا يحضرون أهل الزور المشتغلين بمتاع الغرور ، فإن أهل الدنيا أهل الزور يحسبون الفاني باقيا والقبيح حسنا ويعدّون المعدوم موجودا ، والشرّ خيرا ، فهم الكذّابون المبطلون ، الخاطئون ، أي : يعتزلونهم بملازمة الخلوات وإيثار الطاعات وإقام الصلاة.
(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ) أي : الفضول غير الضرورية تركوها وأعرضوا عنها (مَرُّوا) بها مكرمين أنفسهم عن مباشرتها ، قانعين بالحقوق عن الحظوظ وهم الزاهدون بالحقيقة ، التاركون المجرّدون. ثم لما بيّن الزهد الحقيقي والتجريد قرن به العبادة الحقيقية والتحقيق بقوله : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي : كوشفوا المعارف والحقائق وتجليات الصفات والمشاهدات (لَمْ يَخِرُّوا) على العلم بتلك الآيات من المعارف والحقائق (صُمًّا) بل تلقوها بآذان واعية هي آذان القلوب لا النفوس ، وعلى مشاهدتها (وَ) تجليها (عُمْياناً) بل أحدقوا نحوها ببصائر جديدة مكحلة بنور الهداية. ثم وصف طلبهم للترقي عن مقام القلب إلى مرتبة السابقين والاستعانة بالله عن تلوين النفس وصفاتها لينخرطوا في سلك المقرّبين بقوله : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ) أزواج نفوسنا وذريّات قوانا ما تقرّ به أعيننا من طاعاتهم وانقيادهم خاضعين ، وتنوّرهم بنور القلب مخبتين غير طالبين للاستعلاء والترفع والاستكبار والتجبر (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ) أي : المجرّدين (إِماماً) بالوصول إلى مقام السابقين (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ) غرفة الفردوس وجنة الروح بصبرهم مع الله وفي الله عن غيره (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً) خلود حياة (وَسَلاماً) سلامة وبراءة عن الآفات ، أي : يحييهم الله بإبقائهم سرمدا ببقائه ويسلمهم بإيتائهم كماله كما قيل : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) (١) ، وقال : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (٢).
[٧٧] (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))
(ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) أي : لو لم يكن طلبكم لله وإرادتكم لكنتم شيئا غير ملتفت إليه ولا معبوء به كالحشرات والهوام ، فإن الإنسان إنما يكون إنسانا وشيئا معتدّا به إذا كان من أصحاب الإرادة والطلب ، والله تعالى أعلم.
__________________
(١) سورة الأحزاب ، الآية : ٤٤.
(٢) سورة إبراهيم ، الآية : ٢٣.