٢ ـ باب وجوب الرّجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشّيعة فيما رووه عن الأئمة (عليهمالسلام) من أحكام الشريعة لا فيما يقولونه برأيهم (١).
أقول : إنّ النّاظر في روايات البابين لا يجد رواية تدلّ على بطلان تقليد العاميّ لفقهاء الدّين الّذين يفتون على طبق الكتاب والسنّة والعقل فيما للعقل مجال الحكم ، والرّوايات الواردة فيها ناظرة إلى فقهاء العامّة الّذين كانوا يفتون على طبق ضوابط ما أنزل الله بها من سلطان كالقياس والاستقراء النّاقص والاستحسان ، والرّجوع إلى من باع آخرته بدنياه ، فأين هذه الرّوايات من فتوى علماء الشّيعة النّابعة عن الكتاب والسنّة والأدلّة التي قام الدّليل القطعيّ على حجيتها.
وأظنّ أنّ الشيخ الحرّ العامليّ تأثر من محيطه وبيئته اللّتين كان يعيش فيهما ، حيث كانت الفكرة الأخباريّة سائدة في زمانه ، فقد توفّي عام (١١٠٤ ه ـ) وعاش في عصر المجلسيّين الأوّل والثاني رحمهمالله. وكان رفض الاجتهاد وذمّ التقليد شعاراً لأكثر فضلاء تلك الدّورة إلى أن جاء المحقق البهبهانيّ (٢) فخدم الأُمّة
__________________
(١) الوسائل : ١٨ / ٩٨ ، الباب ١١ من أبواب صفات القاضي.
(٢) قاوم الاخباريّون أو المحدّثون دور العقل في مختلف الميادين ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشّرعيّ فقط ، لأنّ العقل عرضة للخطأ ، وتاريخ الفكر العقليّ زاخر بالأخطاء ، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثبات في أيّ مجال من المجالات الدينيّة. ويرجع تاريخ هذا الاتّجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر ، فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم «الميرزا محمّد أمين الاسترآباديّ» المتوفّى سنة ١٠٢٣ ه ـ ، ووضع كتاباً أسماه : «الفوائد المدنيّة» بلور فيه هذا الاتّجاه وبرهن عليه وجعله مذهباً.
وفي عقيدة المحدّث الاسترآباديّ أنّ العلم البشريّ الذي يستمد قضاياه من الحسّ هو وحده الجدير بالثّقة وكذلك الرّياضيّات التي تستمدّ خيوطها الأساسيّة ـ في زعمه ـ من الحسّ.
وفي ضوء ذلك نلاحظ التقاءً فكريّاً بين الحركة الفكريّة الاخباريّة والمذاهب الحسيّة والتجريبيّة في الفلسفة الأوروبيّة ، فقد شنّت جميعاً حملة كبيرة ضدّ العقل ، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدّها من الحسّ. إلّا أنّ ذلك لم يؤدّ بالتفكير الأخباريّ إلى الإلحاد كما أدّى بالفلسفات الحسيّة