الثاني : أنّ تطوّر العلوم الدينيّة كالأصول والفقه وما يتّصل بها من اللّغة والرّجال صار سبباً لاستكمال الفقاهة في المتأخرين ، فإنّهم واقفون على ما لدى المتقدّمين مضافاً إلى ما وصلوا إليه في ظلّ الجهد والمثابرة ، فلا عتب علينا إذا قلنا : إنّ الشيخ الأنصاري (قدّه) أقوى ملكة وأدقّ نظراً بالنّسبة إلى المتقدّمين من فقهائنا ، ولا يعني ذلك الحط من منزلة المتقدّمين ، فلا شكّ أنّ علومهم وأفكارهم كانت وسيلة وذريعة لارتقاء المتأخرين إلى تلك الدّرجة ، ولكن للمتأخّرين أيضاً جهد بليغ في طريق الفقاهة ، فلو قلنا بلزوم تقليد الأعلم لو كان ميّتاً يشكل الإرجاع إلى من تقدّم من الفقهاء وإن كانوا من أقطاب وأركان ودعائم المذهب الإماميّ.
الثالث : إنّ في إرجاع النّاس إلى الميّت توقيفاً لركب العلم عن التّكامل ، وفيه تضييق وتحديد للشريعة الغرّاء المستمرّة والممتدّة إلى يوم القيامة. ولا يشكّ أحد أنّ تكامل الفقه عند الشيعة رهن رجوع الناس إلى الأحياء من المجتهدين ، فإنّ ذلك صار سبباً إلى دراسة الفقه وممارسته عبر القرون ، فلو كفى العاميّ الرّجوع إلى العالم الميّت وفتاواه ، لما بذل العالم الحيّ الجهد في طريق استكشاف الحكم الشّرعيّ ، مضافاً إلى أنّ في عدم رجوع العوام إلى الميّت ، حفظاً للشريعة من الاندراس وطروء التصحيف والتحريف عليها.
وقد حكى شيخ الشريعة الأصفهاني من الأعلام كلاماً يعجبني نقله هنا ، قال : «إنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأُمّة التي أعظم الله بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابَيْن المؤدّية إلى تحريف ما فيهما واندراس تينك الملتين ، فلم يتركوا لقائل قولاً فيه أدنى دخل إلّا بيّنوه ، ولفاعل فعلاً فيه تحريف إلّا قوّموه ، حتى اتّضحت الآراء ، وانعدمت الأهواء ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق بأضوائها ، وشفاء القلوب