وقال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) فيه غموض. وذلك أن في أول الآية النهى عن السؤال ، ثم قال : (وَإِنْ تَسْئَلُوا) .. إلخ. فأباحه لهم.
فقيل : المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه ، فحذف المضاف ولا يصح حمله على غير الحذف.
قال الجرجانى : الكناية في «عنها» ترجع إلى أشياء أخر ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) يعنى آدم ، ثم قال : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) أى : ابن آدم ، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين ، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله ، وعرف ذلك بقرينة الحال.
فالمعنى : وإن تسألوا عن أشياء ـ أخر ـ حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم ، أو مست حاجتكم إلى التفسير ، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم فقد أباح ـ سبحانه ـ هذا النوع من السؤال» (١).
والضمير في قوله (عَفَا اللهُ عَنْها) يعود إلى أشياء ، والجملة في محل جر صفه أخرى لأشياء.
أى : أن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها هي مما عفا الله عنه ـ رحمة منه وفضلا ـ حيث لم يكلفكم بها. ولم يفضحكم ببيانها.
ويجوز أن يعود الضمير إلى الأسئلة المدلول عليها بقوله (لا تَسْئَلُوا) فتكون الجملة مستأنفة ، ويكون المعنى : عفا الله عن أسئلتكم السالفة التي سألتموها قبل النهى ، وتجاوز ـ سبحانه ـ عن معاقبتكم عليها رحمة منه وكرما ؛ فمن الواجب عليكم بعد ذلك ألا تعودوا إلى مثلها أبدا.
قال صاحب المنار : ولا مانع عندنا يمنعنا من إرادة المعنيين معا. فإن كل ما تدل عليه عبارات القرآن من المعاني الحقيقة والمجازية والكناية يجوز عندنا أن يكون مرادا منها مجتمعة تلك المعاني أو منفردة ما لم يمنع مانع من ذلك كأن تكون تلك المعاني مما لا يمكن اجتماعها شرعا أو عقلا ، فحينئذ لا يصح أن تكون كلها مرادة بل يرجح بعضها على بعض بطرق الترجيح المعروفة من لفظية ومعنوية.
وقوله (وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) اعتراض تذييلى مقرر لعفوه ـ سبحانه ـ أى : عفا الله عن كل ذلك ، وهو ـ سبحانه ـ واسع المغفرة والحلم والصفح ولذا لم يكلفكم بما يشق عليكم ، ولم يؤاخذكم بما فرط منكم من أقوال وأعمال قبل النهى عنها.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر العبر والعظات والحكم من وراء نهيهم عن الأسئلة التي
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٣٢٣