وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته ، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب ، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصا عما كان عند الله أنه ملحقه به ، وضامه إليه .. وهكذا شرائع الإسلام شرعها الله شيئا فشيئا إلى أن أنهى ـ سبحانه وتعالى ـ الدين منتهاه الذي كان له عنده.
وثانيهما : أنه أراد بقوله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره ، فحجوا فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه ، وقياما بفرائضه وفي الحديث : «بنى الإسلام على خمس» وقد كانوا تشهدوا ، وصلوا ، وزكوا ، وصاموا ، وجاهدوا ، واعتمروا ، ولم يكونوا حجوا ، فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلىاللهعليهوسلم أنزل الله وهم بالموقف عشية عرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ). أى : أكمل وضعه لهم.
وقد روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال وأى آية؟ قال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فقال عمر : إنى لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعرفة في يوم جمعة».
وروى أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم بكى عمر ، فقال له ما يبكيك؟ فقال : أبكانى أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «صدقت» (١).
وبعد أن ذكر ـ سبحانه ـ في صدر الآية أحد عشر نوعا من المحرمات ، وأتبع ذلك ببيان إكمال الذين وإتمام النعمة على المؤمنين. جاء ختام الآية لبيان حكم المضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فقال ـ تعالى ـ : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
وقوله (اضْطُرَّ) من الاضطرار بمعنى الوقوع في الضرورة.
والمخمصة : خلو البطن من الغذاء عند الجوع الشديد. يقال خمصه الجوع خمصا ومخمصة. إذا اشتد به. وفي الحديث : «إن الطير تغدو خماصا ـ أى جياعا ضامرات البطون ـ وتروح بطانا ـ أى مشبعات». وقال الأعشى :
يبيتون في المشتى ملاء بطونهم |
|
وجاراتهم غرثى يبتن خمائصا |
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٦١ ـ بتصرف وتلخيص ـ.