ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي جعلت المشركين يصرون على كفرهم ويستحبون العمى على الهدى ، فقال ـ تعالى ـ : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ).
أى : فالكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب قلوبهم منكرة للحق ، جاحدة لنعم الله ، منصرفة عن وحدانية الله ـ تعالى ـ وعن الأدلة الدالة عليها ، وحالهم فوق ذلك أنهم مستكبرون مغرورون ، لا يستمعون إلى موعظة واعظ ، ولا إلى إرشاد مرشد. ومتى استولت على إنسان هاتان الصفتان ـ الجحود والاستكبار ـ ، حالفه البوار والخسران ، وآثر سبيل الغي على سبيل الرشد.
والتعبير عن المشركين بالموصول وصلته «فالذين لا يؤمنون بالآخرة ..» دون التصريح بذواتهم ، لاشتهارهم بتلك الصفات القبيحة ، وللإيمان بأن عدم إيمانهم بالآخرة ، هو أساس خيبتهم ، وخسرانهم وجحودهم ...
وعبر بالجملة الاسمية في قوله «قلوبهم منكرة وهم مستكبرون» للدلالة على تأصل صفتي الجحود والاستكبار في قلوبهم ، وعلى أن الإنكار للحق سمة من سماتهم التي لا يتحولون عنها مهما وضحت لهم الأدلة على بطلانها ، وعلى أن التعالي والغرور لا ينفك عنهم ، وأنهم ممن قال ـ سبحانه ـ فيهم : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (١). أى : صاغرين أذلاء.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم ، فقال : (لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ).
وكلمة «لا جرم» وردت في القرآن في خمسة مواضع ، وفي كل موضع كانت متلوة بأن واسمها ، وليس بعدها فعل.
وجمهور النحاة على أنها مركبة من «لا» و «جرم» تركيب خمسة عشر ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق وثبت ، والجملة بعدها فاعل.
قال الخليل : لا جرم ، كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا ، يقال : فعلوا ذلك ، فيقال : لا جرم سيندمون.
__________________
(١) سورة غافر. الآية ٦٠.