وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله : «ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض «من» المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل ، كأنه ـ تعالى ـ وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت ، وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض لأن مصلحة الأكل على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه ، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع. ولهذا المعنى دخلت ثم في قوله (ثُمَّ كُلِي ...) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات ، كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ثم كل أى شيء شئت. فتوسط ثم لتفاوت. الحجر والإطلاق فسبحان اللطيف الخبير» (١).
وقوله : (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ..) بيان للون آخر من الإلهامات التي ألهمها الله ـ تعالى ـ إياها.
والسبل : جمع سبيل. والمراد بها الطرق التي تسلكها النحلة في خروجها من بيتها وفي رجوعها إليه وأضاف ـ سبحانه ـ السبل إليه ، لأنه هو خالقها وموجدها.
وذللا : جمع ذلول وهو الشيء الممهد المنقاد ، وهو حال من السبل ، أى : فاسلكي سبل ربك حال كونها ممهدة لك ، لا عسر في سلوكها عليك ، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك.
قالوا : ربما أجدب عليها ما حولها ، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى ، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها.
وقيل إن «ذللا» حال من النحلة أى : ثم كلى من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ، حالة كونك منقادة لما يراد منك ، مطيعة لما سخرك الله له من أمور تدل على قدرته وحكمته ـ سبحانه ـ.
وقوله ـ تعالى ـ : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) كلام مستأنف ، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله ـ تعالى ـ وقدرته وعجيب صنعه في خلقه.
أى : يخرج من بطون النحل ـ بعد أكلها من كل الثمرات وبعد اتخاذها بيوتها ـ شراب هو العسل ، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل ، على حسب اختلاف مراعيها ومآكلها وسنها ، وغير ذلك بما اقتضته حكمته ـ سبحانه ـ.
__________________
(١) الكشاف وحاشيته ج ٢ ص ٦١٨.