والموعظة للنفوس فقال ـ تعالى ـ : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).
والتبيان : مصدر يدل على التكثير. قالوا : ولم يجئ من المصادر على هذه الزنة إلا لفظان لفظ التبيان ، ولفظ التلقاء. أى : «ونزلنا عليك» ـ أيها الرسول الكريم ـ «الكتاب» الكامل الجامع وهو القرآن الكريم «تبيانا». أى : بيانا بليغا شاملا «لكل شيء» على سبيل الإجمال تارة ، وعلى سبيل التفصيل تارة أخرى.
وقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) صفات أخرى للكتاب.
أى : أنزلنا عليك القرآن ليكون تبيانا لكل شيء وليكون هداية للناس إلى طريق الحق والخير ، ورحمة لهم من العذاب ، وبشارة لمن أسلموا وجوههم لله ـ تعالى ـ وأحسنوا القول والعمل ، لا لغيرهم ممن آثروا الكفر على الإيمان ، والغىّ على الرشد.
قال الجمل ما ملخصه : وقوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أى بيانا بليغا ، فالتبيان أخص من مطلق البيان على القاعدة : أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى.
وهذا التبيان إما في نفس الكتاب ، أو بإحالته على السنة لقوله ـ تعالى ـ : (... وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ...) (١) ، أو بإحالته على الإجماع كما قال ـ تعالى ـ : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى ...) (٢) أو على القياس كما قال : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) والاعتبار : النظر والاستدلال اللذان يحصل بهما القياس.
فهذه أربعة طرق لا يخرج شيء من أحكام الشريعة عنها ، وكلها مذكورة في القرآن ، فكان تبيانا لكل شيء فاندفع ما قيل : كيف قال الله ـ تعالى ـ (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ونحن نجد كثيرا من أحكام الشريعة لم يعلم من القرآن نصا ، كعدد ركعات الصلاة ، ومقدار حد الشرب ، ونصاب السرقة وغير ذلك ... (٣).
وبعد أن مدح ـ سبحانه ـ القرآن الكريم ، بأن فيه تبيان كل شيء ، وأنه هداية ورحمة وبشرى للمسلمين ، أتبع ذلك بآيات كريمة أمرت المسلمين بأمهات الفضائل ، وبجماع مكارم
__________________
(١) سورة الحشر الآية ٧.
(٢) سورة النساء الآية ١١٥.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٥٩٣.