والامتحان بالمحن والشدائد ، وبالمنح واللطائف ، لما فيه من إظهار الحال والحقيقة ، وأكثر ما تستعمل الفتنة في الامتحان والمحن وعليه يحمل بعضهم تفسير الفتنة بالمحنة.
والمراد بهؤلاء الذين هاجروا من بعد ما فتنوا ـ كما يقول ابن كثير ـ جماعة كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، فوافقوهم على الفتنة ، ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين ، وصبروا .. (١).
والمعنى : «ثم إن ربك» ـ أيها الرسول الكريم ـ تكفل بالولاية والمغفرة لهؤلاء الذين هاجروا من دار الكفر إلى دار الإسلام ، من بعد أن عذبهم المشركون لكي يرتدوا عن دينهم.
قال الآلوسى : وقرأ ابن عامر (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) بالبناء للفاعل ، وهو ضمير المشركين عند غير واحد ، أى : عذبوا المؤمنين ، كالحضرمى ، أكره مولاه «جبرا» حتى ارتد ، ثم أسلما وهاجرا .. (٢).
وقوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا) أى جاهدوا المشركين حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وصبروا على البلاء والأذى طلبا لرضا الله ـ تعالى ـ.
والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِها) يعود إلى ما سبق ذكره من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر. أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ من بعد هذه الأفعال لكثير المغفرة والرحمة لهم ، جزاء هجرتهم وجهادهم وصبرهم على الأذى.
وقوله ـ سبحانه ـ : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها ...) منصوب على الظرفية بقوله (رَحِيمٌ) أو منصوب على المفعولية بفعل محذوف تقديره اذكر. والمراد باليوم : يوم القيامة.
والمجادلة هنا بمعنى : المحاجة والمدافعة ، والسعى في الخلاص من أهوال ذلك اليوم الشديد.
والمعنى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ من بعد تلك المذكورات من الهجرة والفتنة والجهاد والصبر ، لغفور رحيم ، يوم تأتى كل نفس مشغولة بأمرها ، مهتمة بالدفاع عن ذاتها ، بدون التفات إلى غيرها ، ساعية في الخلاص من عذاب ذلك اليوم.
والمتأمل في هذه الجملة الكريمة ، يراها تشير بأسلوب مؤثر بليغ إلى ما يعترى الناس يوم
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٨٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٤ ص ٢٣٩.