وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف .. (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ رذيلة أخرى من رذائل أهل هذه القرية الكافرة بأنعم الله فقال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ).
أى : ولقد جاء إلى أهل هذه القرية رسول من جنسهم ، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فأمرهم بطاعة الله وشكره ، ولكنهم كذبوه وأعرضوا عنه.
والتعبير بقوله (جاءَهُمْ) يدل على أن هذا الرسول وصل إليهم وبلغهم رسالة ربه ، دون أن يكلفهم الذهاب إليه ، أو البحث عنه.
والتعبير بالفاء في قوله : (فَكَذَّبُوهُ) يشعر بأنهم لم يتمهلوا ولم يتدبروا دعوة هذا الرسول ، وإنما قابلوها بالتكذيب السريع بدون روية ، مما يدل على غباوتهم وانطماس بصيرتهم.
وقوله ـ تعالى ـ (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) بيان للعاقبة السيئة التي حاقت بهم.
أى : فكانت نتيجة تكذيبهم السريع لنبيهم أن أخذهم العذاب العاجل الذي استأصل شأفتهم ، والحال أنهم هم الظالمون لأنفسهم ، لأن هذا العذاب ما نزل بهم إلا بعد أن كفروا بأنعم الله ، وكذبوا رسوله.
هذا ، والذي يتأمل هاتين الآيتين الكريمتين يراهما وإن كانتا تشملان حال كل قوم بدلوا نعمة الله كفرا .. إلا أنهما ينطبقان تمام الانطباق على كفار مكة.
وقد بين ذلك الإمام الآلوسى ـ رحمهالله ـ فقال ما ملخصه : وحال أهل مكة ـ سواء أضرب المثل لهم خاصة ، أم لهم ولمن سار سيرتهم كافة ـ أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب ، فقد كانوا في حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم ، وكانت تجبى إليهم ثمرات كل شيء رزقا ، ولقد جاءهم رسول منهم تحار في سمو مرتبته العقول صلىاللهعليهوسلم فأنذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله ، وكذبوه صلىاللهعليهوسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف ، حيث أصابهم بدعائه صلىاللهعليهوسلم : «اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» ـ ما أصابهم من جدب شديد ، فاضطروا إلى أكل الجيف .. وكان أحدهم ينظر إلى
__________________
(١) راجع تفسير الكشاف ج ٢ ص ٦٣٩.