الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه. فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته ، كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر .. (١).
وقال بعض العلماء ما ملخصه : ويصح أن يكون لفظ الكذب مفعولا لتصف ، وأن يكون قوله : (هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) مفعولا لتقولوا.
وعلى هذا الوجه يكون في وصف ألسنتهم الكذب ، مبالغة في وصف كلامهم بالكذب ، حتى لكأن ماهية الكذب كانت مجهولة ، فكشفت عنها ألسنتهم ووضحتها ووصفتها ونعتتها بالنعوت التي جلتها .. ومنه قول الشاعر :
أضحت يمينك من جود مصوّرة |
|
لا ، بل يمينك منها صوّر الجود (٢) |
واللام في قوله : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) هي لام الصيرورة والعاقبة ، أو هي ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ من التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض ، لأن ما صدر عنهم من تحليل وتحريم دون أن يأذن به الله ، ليس الغرض منه افتراء الكذب فحسب ، بل هناك أغراض أخرى ، كظهورهم بمظهر أولى العلم ، وكحبهم للتباهى والتفاخر ..
وقوله : (لِتَفْتَرُوا) من الافتراء وهو أشنع أنواع الكذب ، لأنه اختلاق للكذب الذي لا يستند إلى شيء من الواقع.
أى : ولا تقولوا لما تحكيه ألسنتكم من أقوال وأحكام لا صحة لها ، هذا حلال وهذا حرام ، لتنسبوا ذلك إلى الله ـ تعالى ـ كذبا وزورا.
قال الإمام ابن كثير : ويدخل في الآية كل من ابتدع بدعة ، ليس له فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله ، بمجرد رأيه وتشهيه (٣).
وقال الآلوسى : وحاصل معنى الآية : لا تسلموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله ـ تعالى ـ ورسوله صلىاللهعليهوسلم حلالا ولا حراما ، فتكونوا كاذبين على الله ، لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه ـ سبحانه ـ.
ومن هنا قال : أبو نضرة : لم أزل أخاف الفتيا منذ أن سمعت هذه الآية إلى يومى هذا.
وقال ابن العربي : كره مالك وقوم أن يقول المفتي : هذا حلال وهذا حرام في المسائل
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٤٣٣.
(٢) تفسير القاسمى ج ١٠ ص ٣٨٧٢.
(٣) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٥٩٠.