ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء» (١).
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا سنة من سنن الله ـ تعالى ـ في إهلاك الأمم ، وأنه ـ تعالى ـ ما أهلكها إلا بعد أن عتت عن أمره ، وعصت رسله ، كما أنها بينت لنا سوء عاقبة الذين يؤثرون متع الدنيا على طاعة الله ـ تعالى ـ ، وحسن عاقبة الذين يريدون الآخرة وما فيها من ثواب جزيل ، وأن الفريقين لا ينالون مما يطلبونه إلا ما قدره الله ـ تعالى ـ لهم ، وأن عطاءه للناس جميعا لا ينقص مما عنده شيئا ، وأن حكمته ـ سبحانه ـ قد اقتضت تفضيل بعض الناس على بعض في الدنيا والآخرة ، وصدق ـ عزوجل ـ حيث يقول : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).
قال الإمام الرازي ما ملخصه : بعد أن بين ـ سبحانه ـ أن الناس فريقان : فريق يريد بعمله الدنيا فقط ، وفريق يريد بعمله طاعة الله ، ثم شرط ذلك بشرائط ثلاثة : أولها : إرادة الآخرة ، وثانيها : أن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة ، وثالثها : أن يكون مؤمنا.
لا جرم فصل في هذه الآيات تلك المجملات : فبدأ أولا بشرح حقيقة الإيمان ... ثم ذكر عقبيه سائر الأعمال ... (٢).
والخطاب في قوله ـ تعالى ـ : (لا تَجْعَلْ ...) لكل من يصلح له.
والقعود في قوله «فتقعد» قيل بمعنى المكث : كما يقول القائل : فلان قاعد في أسوأ حال ، أى : ماكث في أسوأ حال ، سواء أكان قاعدا أم غير قاعد. وقيل بمعنى العجز ، لأن العرب تقول : فلان ما أقعده عن المكارم ، أى : ما أعجزه عنها ، وقيل هو بمعنى الصيرورة ، من قولهم : فلان شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة ، أى : صارت.
والذي تطمئن إليه النفس أن القعود على حقيقته ، لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا نادما على ما فرط منه.
وقوله ـ سبحانه ـ : (مَخْذُولاً) من الخذلان ، وهو ترك النصرة عند الحاجة إليها.
يقال : خذل فلان صديقه ، أى : امتنع عن نصره وعونه مع حاجته الشديدة إليهما.
والمعنى : لا تجعل ـ أيها المخاطب ـ مع الله ـ تعالى ـ إلها آخر في عبادتك أو خضوعك ، فتقعد جامعا على نفسك مصيبتين :
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٦٠ ـ طبعة دار الشعب بالقاهرة.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٢٠ ص ١٨٢.