ثم ساق ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما يدل على كمال قدرته ، وسعة عطائه فقال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) ولفظ «كلا» هنا مفعول به للفعل نمد ، والتنوين عوض عن المضاف إليه. أي : نمد كل واحد من الفريقين.
وقوله (نُمِدُّ) من الإمداد بمعنى الزيادة. يقال : أمد القائد الجيش بالجند ، إذا زاده وقواه.
والمراد باسم الإشارة الأول «هؤلاء» : المؤثرون للعاجلة ، والمراد بالثاني الراغبون في ثواب الآخرة.
والمعنى : كلا من الفريقين نمده من فضلنا وإحساننا فنعطى ما نريد إعطاءه لمن يريد العاجلة ولمن يريد الآجلة دون أن ينقص مما عندنا شيء ، ودون أن يخرج عن مشيئتنا شيء.
(وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ) أيها الرسول الكريم (مَحْظُوراً) أي : ممنوعا لا عن المؤمن ولا عن الكافر ، ولا في الدنيا ولا في الآخرة.
من الحظر بمعنى المنع يقال : حظره يحظره ـ من باب قتل ـ فهو محظور ، أي : ممنوع.
ثم أمر ـ سبحانه ـ عباده بالنظر والتأمل في أحوال خلقه ، ليزدادوا عظة وعبرة ، فقال : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا).
أي : انظر ـ أيها العاقل ـ نظر تأمل وتدبر واعتبار في أحوال الناس ، لترى عن طريق المشاهدة كيف فضل اللَّه ـ تعالى ـ بعض الناس على بعض في هذه الحياة ، فهذا غنى وذاك فقير ، وهذا قوى وذاك ضعيف ، وهذا ذكى وذاك خامل ، وهذا مالك وذاك مملوك ..
إلى غير ذلك من الأحوال التي تدل على تفاوت الناس في هذه الدنيا ، على حسب ما تقتضيه إرادة اللَّه ـ تعالى ـ وحكمته ، ومشيئته.
أما في الآخرة فالناس فيها أكبر تفاضلا وتفاوتا في الدرجات والمنازل ، مما كانوا عليه في الدنيا.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : وقوله : (ولَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أي : ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العلا ونعيمها وسرورها. ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين : «إن أهل الدرجات العلا