جزاء ما بذلا من رعاية لي في صغرى ، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما.
قال الجمل : والكاف في قوله (كَما رَبَّيانِي ..) فيها قولان : أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف.
أى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لي ، والثاني أنها للتعليل. أى : ارحمهما لأجل تربيتهما لي ، كما في قوله (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) (١).
ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه الآيات التي سمت بمنزلة الوالدين ، بما يدل على كمال علمه ، وعلى التحذير من عقابه ، فقال ـ تعالى ـ : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).
والأوابون : جمع أواب. وهو الكثير الأوبة والتوبة والرجوع إلى الله ـ تعالى ـ يقال : آب فلان يئوب إذا رجع.
قال ابن جرير بعد أن ساق الأقوال في ذلك : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الأواب هو التائب من الذنب ، الراجع عن معصية الله إلى طاعته ، ومما يكرهه إلى ما يرضاه ، لأن الأواب إنما هو فعال من قول القائل : آب فلان من سفره إلى منزله ، كما قال الشاعر :
وكل ذي غيبة يئوب |
|
وغائب الموت لا يؤوب (٢) |
أى : ربكم ـ أيها الناس ـ أعلم بما في نفوسكم ، وضمائركم ، سواء أكان خيرا أو شرا ، وسواء كنتم تضمرون البر بآبائكم أم تخفون الإساءة إليهما ، ومع ذلك فإنكم إن تكونوا صالحين ـ أى : قاصدين الصلاح والبر بهما ، والرجوع عما فرط منكم في حقهما أو في حق غيرهما ـ فالله ـ تعالى ـ يقبل توبتكم ، فإنه ـ سبحانه ـ بفضله وكرمه كان للأوابين ـ أى الرجاعين إليه بالتوبة مما فرط منهم ـ غفورا لذنوبهم.
فالآية الكريمة وعيد لمن تهاون في حقوق أبويه ، وفي كل حق أوجبه الله عليه ، ووعد لمن رجع إليه ـ سبحانه ـ بالتوبة الصادقة.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أمرت بالإحسان إلى الوالدين ، بأسلوب يستجيش عواطف البر والرحمة في قلوب الأبناء ، ويبعثهم على احترامهما ورعايتهما والتواضع لهما ، وتحذيرهم من الإساءة إليهما ، ويفتح باب التوبة أمام من قصر في حقهما أو حق غيرهما.
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٦٢٢.
(٢) تفسير ابن جرير ج ١٥ ص ٥٢.