وقوله ـ سبحانه ـ : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أى : ونزلناه تنزيلا مفرقا منجما عليك يا محمد في مدة تصل إلى ثلاث وعشرين سنة ، على حسب ما تقتضيه حكمتنا ، وعلى حسب الحوادث والمصالح ، وليس من أجل تيسير حفظه فحسب.
ثم أمر الله ـ تعالى ـ نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يخاطب المشركين بما يدل على هوان شأنهم. وعلى عدم المبالاة بهم ، فقال ـ تعالى ـ : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ...).
أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الجاهلين. الذين طلبوا منك ما هو خارج عن رسالتك ، والذين وصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين : قل لهم : آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به ، لأن إيمانكم به ، لا يزيده كمالا ، وعدم إيمانكم به لا ينقص من شأنه شيئا ، فإن علماء أهل الكتاب الذين آتاهم الله العلم قبل نزول هذا القرآن ، وميزوا بين الحق والباطل ، كانوا إذا تلى عليهم هذا القرآن ، ـ كأمثال عبد الله بن سلام وأصحابه «يخرون للأذقان سجدا» أى : يسقطون على وجوههم ساجدين لله ـ تعالى ـ شكرا له على إنجاز وعده ، بإرسالك ـ أيها الرسول الكريم ـ وبإنزال القرآن عليك ، كما وعد بذلك ـ سبحانه ـ في كتبه السابقة.
فالجملة الكريمة : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ..) تعليل لعدم المبالاة بهؤلاء المشركين الجاهلين ، والضمير في قوله : (مِنْ قَبْلِهِ) يعود إلى القرآن الكريم.
وقوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) يدل على قوة إيمانهم ، وعلى سرعة تأثرهم بهذا القرآن ، فهم بمجرد تلاوته عليهم ، يسقطون على وجوههم ساجدين لله ـ تعالى ـ.
وخصت الأذقان بالذكر ، لأن الذقن أول جزء من الوجه يقرب من الأرض عند السجود ، ولأن ذلك يدل على نهاية خضوعهم لله ـ تعالى ـ وتأثرهم بسماع القرآن الكريم :
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما يقولونه في سجودهم فقال : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً).
أى : ويقولون في سجودهم ، ننزه ربنا ـ عزوجل ـ عن كل ما يقوله الجاهلون بشأنه ، إنه ـ تعالى ـ كان وعده منجزا ومحققا لا شك في ذلك.
ثم كرر ـ سبحانه ـ مدحه لهم فقال : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ، وَيَزِيدُهُمْ) أى سماع القرآن (خُشُوعاً) وخضوعا لله ـ عزوجل.