«من تراب». أى : خلق أباك الأول من تراب ، كما قال : سبحانه (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).
(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أى : خلق أباك آدم من تراب ، ثم أوجدك أنت من نطفة عن طريق التناسل والمباشرة بين الذكر والأنثى.
(ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) أى : ثم صيرك إنسانا كاملا ، ذا صورة جميلة ، وهيئة حسنة. كما قال ـ سبحانه ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
والاستفهام في قوله : (أَكَفَرْتَ ..) للإنكار والاستبعاد ، لأن خلق الله ـ تعالى ـ له من تراب ثم نطفة ، ثم تسويته إياه رجلا ، يقتضى منه الإيمان بهذا الخالق العظيم ، وإخلاص العبادة له ، وشكره على نعمائه.
قالوا : ولا يستلزم قول صاحب الجنتين قبل ذلك : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً). أنه كان مؤمنا ، لأنه قال ذلك على سبيل الفرض والتقدير ، لا على سبيل الاعتقاد واليقين ، بدليل تردده في إمكان قيام الساعة ، ولأن اعترافه بوجود الله ـ تعالى ـ لا يستلزم الإيمان الحق ، فالكفار كانوا يعترفون بأن الله ـ تعالى ـ هو الخالق للسموات والأرض ، ومع هذا يشركون معه في العبادة آلهة أخرى.
وجاء التعبير بحرف «ثم» في الآية ، للاشارة إلى أطوار خلق الإنسان التي فصلها ـ سبحانه ـ في آيات أخرى ، منها قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ، فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ، فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً ، فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ، فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢).
ثم يعلن الرجل الصالح موقفه بشجاعة ووضوح ، فيقول لصاحبه صاحب الجنتين : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي ، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً).
أى : إن كنت أنت يا هذا قد كفرت بالله الذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا ، فإنى لست بكافر ، ولكني أنا مؤمن ، أعترف له بالعبادة والطاعة وأقول : هو الله ـ
__________________
(١) سورة آل عمران الآية ٥٨.
(٢) سورة المؤمنون الآيات من ١٣ ـ ١٤.