ثم بين ـ سبحانه ـ حالة المجرمين عند ما يبصرون النار فقال : (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً).
ورأى هنا بصرية. والظن بمعنى اليقين والعلم ، لأنهم أبصروا الحقائق ، وشاهدوا واقعهم الأليم مشاهدة لا لبس فيها ولا خفاء.
أى : وشاهد المجرمون بأعينهم النار ، فأيقنوا أنهم مخالطوها وواقعون فيها. بسبب سوء أعمالهم ، وانكشاف الحقائق أمامهم ، ولم يجدوا عنها مصرفا أى مكانا ينصرفون إليه ، ويعتصمون به ليتخذوه ملجأ لهم منها.
فالمصرف : اسم مكان للجهة التي ينصرف إليها الإنسان للنجاة من ضر أحاط به.
وعبر ـ سبحانه ـ عن رؤيتهم للنار بالفعل الماضي ، لتحقق الوقوع.
وقال ـ سبحانه ـ (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ) فوضع المظهر موضع المضمر ، لتسجيل الإجرام عليهم ، ولزيادة الذم لهم.
وقد ذكر ـ سبحانه ـ هنا أن المجرمين يرون النار ، وذكر في آية أخرى أنها تراهم ـ أيضا ـ قال ـ تعالى ـ : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١).
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا فسوق إبليس عن أمر ربه ، وحذرتنا من اتخاذه وليا ، ومن الانقياد لوسوسته وإغراءاته ، كما حكت لنا جانبا من أحوال المشركين وشركائهم ، وكيف أن الشركاء قد تخلوا عن عابديهم في هذا اليوم العصيب ، بعد أن أحاطت النار بالجميع ، وأيقن المجرمون أنه لا فكاك لهم منها ، ولا نجاة لهم من لهيبها.
نسأل الله ـ تعالى ـ بفضله وكرمه أن ينجينا من هذا الموقف الرهيب.
ثم مدحت السورة الكريمة القرآن ، فوصفته بأن الله ـ تعالى ـ قد أكثر فيه من ضرب الأمثال ، ونوعها لتشمل جميع الأحوال ، وبينت سنة الله ـ تعالى ـ في الأمم السابقة ، كما بينت وظيفة الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وسوء عاقبة المكذبين لهم ، ومظاهر رحمة الله ـ تعالى ـ بالناس.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تحكى كل هذه المعاني بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول :
__________________
(١) سورة الفرقان الآية ١٢.