وأما في المتصل ، فهم داخلون في حكم الإرسال ، وعلى أن الملائكة أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء ، وينجوا هؤلاء ، فلا يكون الإرسال مخلصا بمعنى الإهلاك والتعذيب كما في الوجه الأول» (١) ...
وقوله ـ سبحانه ـ (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) استثناء من الضمير في (لَمُنَجُّوهُمْ) ، إخراجا لها من التنجية. أى : إلا امرأة لوط ـ عليهالسلام ـ فليست ممن سننجيه ، بل هي ممن سنهلكه مع القوم المجرمين.
ومعنى (قدرنا) : قضينا وحكمنا.
والغابر : الباقي. يقال غبر الشيء غبورا إذا بقي وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع. وقد يستعمل في الماضي فيكون هذا اللفظ من الأضداد.
ونسب الملائكة التقدير إليهم فقالوا (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا ...) مع أنه فعل الله ـ تعالى ـ لما لهم من الزلفى عنده ـ سبحانه ـ ، ولأنهم ما أرسلوا لإهلاك المجرمين وإنجاء المؤمنين إلا بأمره.
قال الآلوسى ما ملخصه : والظاهر أن قوله ـ تعالى ـ (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا ...) من كلام الملائكة ، وأسندوا التقدير إلى أنفسهم ـ وهو فعل الله ـ سبحانه ـ لما لهم من القرب والاختصاص ، وهذا كما يقول أحد حاشية السلطان : أمرنا بكذا .. والآمر في الحقيقة هو السلطان. وقيل ـ ولا يخفى بعده ـ : هو من كلام الله ـ تعالى ـ فلا يحتاج إلى تأويل ، وكذا لا يحتاج إلى تأويل إذا أريد بالتقدير العلم.
قال بعض العلماء : وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء ، لأنه ـ تعالى ـ استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٢).
وبهذا نرى أن الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوب بليغ حكيم ، ما دار بين إبراهيم وبين
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٩٣.
(٢) تفسير (أضواء البيان) ج ٣ ص ١٥٥ للشيخ محمد الأمين الشنقيطى.