ثم الأصل في قوله ـ تعالى ـ : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [أنه إنما يحسن عمله](١) بحسن رغبته ويسوء عمله بسوء رغبته ورهبته ، فخلق الحياة والموت ليتفكر فيهما المرء ، ويعتبر بهما ، فمن حسنت (٢) رغبته ورهبته حسن عمله ، ومن لم يتفكر فيهما ، ولم يعتبر بهما ، ساء عمله ، فالموت والحياة أنشئا مرغبين ومرهبين ، وكذلك الدنيا وما فيها [أنشئت](٣) دلالة على طريق الآخرة ، فالسمع يدل على السمع ، والبصر على البصر ، وآلامها تدل على آلام الآخرة ، ونعيمها دليل على نعيم الآخرة ، والله أعلم.
ثم قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [فيه دليل على إضمار قوله : وأيكم أسوأ عملا](٤) على مقابلة الأول ، إلا أنه اكتفى بذكر أحد المتقابلين عن (٥) الآخر ، والله أعلم.
فإن قال قائل : كيف أضاف الابتلاء إلى نفسه بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) ، والابتلاء في الشاهد ؛ لاستظهار ما خفي ، ولاستحضار ما غاب ، والله تعالى لا يغيب عنه شيء ، ولا يخفى عليه أمر ، فكيف أضيف إليه الابتلاء؟!
فجوابه أن نقول : إن الابتلاء في الحقيقة كناية عما به ظهور الشيء وبروزه. فاستعمل الابتلاء في كل ما فيه ظهور الأمر ، وإن كان الذي ظهر من الأمر عند المبتلي ظاهرا ، وهذا كما أضيف [الاستدراج والمكر](٦) إلى الله تعالى ؛ لوجود معنى المكر والاستدراج فيه ، وإن لم يكن المقصود من ذلك المكر والاستدراج ، وفي الشاهد المكر أن تحسن إلى عدو ليقع عنده أنك تركت عداوته ، فيعتبر بإحسانك إليه ، ثم تأخذه من وجه أمنه ، ومن حيث لا يشعر به ، هذا هو معنى المكر في الشاهد ، وقد وجد الإحسان من الله تعالى إلى أعدائه ، ووجد منهم الاغترار بالنعم ، ووقع عندهم أنهم من جملة أوليائه ثم أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ؛ فوجد معنى المكر وإن لم يقصد (٧) بإحسانه إليهم المكر بهم.
والثاني : أن من أمر في الشاهد فإنما يأمر ؛ لمصلحة أو لمنفعة تعود (٨) إليه ، وإذا نهى (٩) عن شيء فإنما ينهى ؛ لنفي مضرة تصل إليه ، والله تعالى لم يأمر الخلق ولم ينههم
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : ويعتبر به ، ومن حسنت.
(٣) سقط في ب.
(٤) سقط في ب.
(٥) في ب : على.
(٦) في ب : المكر والاستهزاء.
(٧) في ب : يقع.
(٨) في أ : تصل.
(٩) في ب : نهاه.