إذا رأيت فيه فطورا وشقوقا رأيت فيه تمانعا وتدافعا ، وفي حصول التمانع والتدافع حصول العدد ؛ لأن التدافع والتمانع إنما يقع عند ثبات العدد ؛ لأن ما يبني هذا يهدمه الآخر ، وما يهدمه الآخر وينقضه يبني الآخر ، فعند ذلك يقع التدافع ، وإذا لم ير فيه فطورا أو شقوقا ، بل رآه متسقا مجتمعا ؛ دل على وحدانيته وقدرته وسلطانه.
وكذلك التفاوت يدل على السفه ونفي الحكمة ، وارتفاع التفاوت يدل على حكمته وعجيب تدبيره ؛ فيكون في ارتفاع [الفطور والتفاوت](١) إثبات القول بالوحدانية وإيجاب القول بالبعث من حيث ثبت حكمته ، وفي نفي القول بالبعث زوال الحكمة ، وفيه إيجاب المحنة والابتلاء ؛ لأن العدد إذا ثبت ، كان للممتحن ألا يعمل حتى يتبين له الغالب من المغلوب فلا يضيع عمله.
أو يشتغل (٢) كل بإقامة سلطانه ونفاذ تدبيره ، فلا يتفرغ للأمر بالمحنة ؛ ألا ترى [إلى](٣) قوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] قيل : يذهب كل واحد منهم بالجزء الذي (٤) خلقه ؛ فيظهر عند ذاك فطور وشقوق ؛ لأن ما خلق هذا يمتاز من الذي خلقه الآخر ، فارتفاع الفطور يدل على وحدانية الصانع جل جلاله.
وقيل في قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي : من حيث الدلالة على وحدانية الرب ـ تعالى ـ أو من حيث الحكمة والمصلحة ؛ فالخلائق كلها في المعاني التي ذكرناها غير متفاوتة ، لا أن تكون الأشياء المحدثة غير متفاوتة في أنفسها ؛ لأن بين السموات والأرضين تفاوتا ، وكذلك بين (٥) الحياة والموت تفاوت ، ولكن منافع السماء متصلة بمنافع الأرض ، ومنافع أهل الأرض متصلة بالأرض وقوامهم ومعاشهم بما يخرج منها ، وكل ذلك يدل على وحدانيته وعلى حكمته ولطائف تدبيره.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ).
فجائز أن يكون هذا على رجوع بصر الوجه.
وجائز أن يكون على رجوع بصر القلب.
__________________
(١) في ب : التفاوت والفطور.
(٢) في ب : يستعمل.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : والذي.
(٥) في ب : من.