في الآخرة كما كانت تنفعهم في الدنيا ، فلما ألقوا فيها ، أيقنوا أن أيمانهم لا تدفع عنهم العذاب ؛ ففزعوا إلى الاعتراف والصدق ؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب ، فقالوا : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) ينذرنا عن لقاء هذا اليوم ، (فَكَذَّبْنا) بالذي كان ينذرنا النذر ، وقلنا : (ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) مما تنذروننا به.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).
فجائز أن يكون القائل لهم بهذا هم الخزنة ، أو هذا خطاب في الدنيا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ).
ففي قوله : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) اعتراف منهم بأنهم قد سمعوا وعقلوا ، فقوله : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) ، ليس هو على نفي السمع والعقل ؛ إذ قد أقروا أنهم سمعوا وعقلوا ، وإنما هو على نفي الانتفاع بما سمعوا وعقلوا ؛ لأن الانتفاع بالمسموع هو الإجابة لما سمع ، والانتفاع بالعقل أن يقوم بوفاء ما عقل ، وهم لم يجيبوا لما سمعوا ، ولم يقوموا بوفاء ما عقلوا.
وقال بعضهم : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) : في الدنيا كما نسمع الآن ، أو كنا نعقل كما نعقل الآن (ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).
وهذا غير مستقيم ؛ لأن تلك الدار ليست بدار إسماع (١) وإفهام ، وإنما المعنى ما ذكرنا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ).
أي : بعدا ، على معنى الدعاء عليهم.
وقيل (٢) : السحق : واد في جهنم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ).
يحتمل : أي : الذين يخشون عذاب ربهم والعذاب عنهم غائب ، فأهل الإسلام يخشون عذاب الله وهو غائب عنهم ، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه.
وجائز أن يكون قوله ـ عزوجل ـ : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي : يخشون الله ـ تعالى ـ أن يعذبهم.
__________________
(١) في ب : استماع.
(٢) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٣٤٤٩٧) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٣٨٣).