أو أن يخشوه فيما أوعدهم.
ثم الأصل : أن ما من مؤمن بالبعث ـ سوى المعتزلة ـ إلا وهو يخشى الله تعالى ، لكنهم يتفاوتون في الخشية.
ثم الخشية تقتضي الرجاء والخوف ، ليس كالأمن والإياس الذي لا يقتضي كل واحد منهما إلا وجها واحدا ، وإذا كانت الخشية تقتضي ما ذكرنا ، فكل مؤمن يخاف عذاب الله تعالى ؛ لما رأى من كثرة نعم الله تعالى وغفلته عن حقوق تلك النعم ؛ لأن من حقها أن يشكر الله تعالى عليها ، وقد عرف كل [مؤمن تقصيره](١) في أداء الشكر وتفريطه في قضاء (٢) الحقوق ؛ فيرجو رحمته ، لما عرف من سعة رحمته ، وعرفه متفضلا عفوّا غفورا ، لكن فيهم تفاوت في الخشية والرهبة : فمن كان أذكر (٣) لغفلته ، فهو لعقوبته أكثر خشية ، ومن كان أقل ذكرا لغفلته فهو أقل خشية ؛ فيتفاوتون على تفاوتهم في الذكر ، وهو كالموت الذي يرهبه الناس جميعا ويتيقنون بحلوله ، لكنهم يتفاوتون في ذلك : فمن كان له أكثر ذكرا ، كان أبلغ في التيقظ ، وأكثر رهبة ، ومن كان أغفل عن ذكره فهو له أقل رهبة.
ولقائل أن يقول : كيف جعلتم كل مؤمن خائفا راجيا ، والراجي : هو الذي يطلب ، والخائف : هو الذي يهرب ، فكل من رجا شيئا يعلم أنه لا وصول إليه إلا بأعمال وأسباب ، فهو يقوم بتلك الأعمال ، بغاية ما يحمله وسعه ؛ ليصل إلى مأموله ، وإذا لم يقم بها لم يكن راجيا في الحقيقة ، بل كان متمنيا ، وكذلك من خاف حقيقة الخوف ، وعلم أن المخوف نازل به إن لم يهرب ؛ فهو يهرب مما يخافه أشد الهرب.
ثم كثير من المؤمنين تراهم مقصرين في الأعمال التي يتوصل بها إلى بلوغ الآمال ، ولا يهربون مما يخافون منه أشد الهرب وغاية الخوف ، فكيف وصفتم كل مؤمن بالخوف والرجاء وكثير منهم لا يتحقق فيهم هذا الوصف؟!
واستدل على صحة ما ذكر بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) [البقرة : ٢١٨] ، فالراجي لرحمة الله من دأب في طاعته ، وقال ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون : ٦٠] ، فقيل : يا رسول الله ، هم الذين يزنون ويسرقون؟! فقال : «بل هم الذين يصومون ويصلون وقلوبهم وجلة» ، وقال ـ تعالى ـ : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء : ٢٨].
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : أداء.
(٣) في أ : إذا ذكر.