الخلق مكان الإمساك ، أمكن [جعفرا أن يتأول](١) في الخلق ما تأول في الإمساك ، فيقول : معنى قوله : خلق طيرانهن ، أي : علم طيرانهن ، وقوّاهن على الأسباب التي بها تطير ، فلا يتهيأ لله تعالى على قوله أن يثبت لخلقه و [لا] يقرر عندهم خلق شيء من الأشياء.
ثم الأصل أن الآيات المذكورة في القرآن إنما ذكرت لإثبات أوجه خمسة :
أحدها : في تثبيت القدرة على البعث ، وهي لا تثبت القدرة ، ولا توجب القول بالبعث على قول المعتزلة ؛ وذلك أن الله تعالى احتج في تثبيت القدرة على البعث بقدرته على ابتداء الخلق ، فقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) [يس : ٧٧] ، وقال : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، [فاحتج بأمر الابتداء](٢) على تثبيت القدرة على الإعادة ، [وليس فيه ما يثبت القدرة على الإعادة](٣) عندهم ؛ لأنهم نفوا خلق الأفعال عن الله تعالى مع إقرارهم أن الله تعالى هو الذي ابتدأ الخلائق ، وهو الذي أنشأهم ، ولم يكن في إثبات القدرة على خلق الأعيان إثبات قدرة منه على خلق الأفعال ، وإن كان خلق الأفعال دون خلق الأنفس ، فكيف ذكر قدرته على ابتداء الخلق على تثبيت القدرة على الإعادة ، وإن كان أمر الإعادة أيسر من الابتداء ، مع أن آثار الخلق في أفعال العباد وإثبات التدبير فيها أوجد منه في أمر البعث ؛ وذلك أنك تجد من الأفعال أفعالا هي مؤذية لأهلها متعبة مؤلمة ، ومعلوم بأن قصد أربابها أن يتلذذوا بها ويتمتعوا بها ؛ فثبت أن لغيرهم فيها تدبيرا وصنعا حتى صارت كذلك ؛ ولأنه يوجد في أفعالهم أحوال لا تبلغها أوهامهم ولا تقدرها عقولهم ؛ لأن الفعل يأخذ من الجو والمكان والوقت ما لا تقدره الأوهام ولا تبلغه العقول ؛ فثبت أن لغيره فيه صنعا وتدبيرا ؛ ولأن فعله يخرج على قبيح وحسن ، لا [يبلغ علم](٤) فاعله أنه يبلغ في الحسن والقبح ذلك المبلغ ، وينتهي في الحسن مبلغا لو أراد أن يخرج على ذلك الحد في المرة الثانية لم يخرج كذلك ، فكل ما ذكرنا يبين أن جميع أفعالهم على ما هي عليه (٥) ليست لهم ، ثم مع ذلك أنكروا أن تكون الأفعال من جهة الخلق لله تعالى ، ولم يظهر شيء من أمارات البعث ولا وجد فيه التدبير ؛
__________________
(١) في ب : أن يتأول جعفرا.
(٢) في أ : واحتج بالابتداء.
(٣) سقط في أ.
(٤) في ب : يعلم.
(٥) في ب : وعليها.