ذكر يجب الاستماع إليه والسعي إليه ؛ فدل هذا على فرضية الخطبة ، ولما ثبت أن المعنى من قوله : (إِلى ذِكْرِ اللهِ) أن المراد بالذكر الخطبة ، ثم أمر بترك البيع للسعي إلى هذا الذكر والاستماع له ـ ثبت أن الكلام في وقت الخطبة مكروه ، وفي وقت خروج الإمام إلى الخطبة مكروه أيضا ؛ لأن البيع في ذلك الوقت مكروه ، والبيع كلام ؛ فيدل على كراهية كل كلام ؛ فيدل على صحة مذهب أبي حنيفة ـ رحمهالله ـ في أنه يلزم السكوت إذا خرج الإمام حتى يفرغ من الصلاة ، وعلى ذلك ورد الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من أتى الجمعة ثم صلى ما شاء أن يصلي ، ثم إذا خرج الإمام سكت إلى أن يفرغ من صلاته ـ كان ذلك كفارة له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام بعده» (١) ، فلما ألزمه السكوت من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة ، ثبت أن الكلام في ذلك الوقت مكروه ، والله أعلم.
قال : وفي هذه الآية دلالة على كذب من قال : إن الصلاة إنما تفترض في آخر الوقت ، وأن من أدى فرضا في أول وقت فإنما يؤدي تطوعا ؛ لأنه أمره بالسعي وفرض عليه إذا نودي ، ومعلوم أنه إذا تهيأ للإمام تأخير الصلاة في ذلك الوقت نص عليه مع ذلك ؛ فدل هذا على كذب مقالتهم ، والله أعلم.
وأقبح من هذا أنهم قالوا : إن الصلوات مفروضات على الكفرة في حال كفرهم وعلى المسلمين تطوع مع أنه يجيء على قولهم : إنه ليس أحد من الأمة أدى فرضا البتة ؛ لأنه لم يذكر عن أحد منهم أنه فرط في أداء الصلاة حتى خاف خروج وقتها ، فهذا قول قبيح يجب أن يستتاب عنه صاحبه وعن أمثاله ، والله أعلم.
وفي هذه الآية دلالة على أن الجمعة لا تجب على من بعد من الإمام بفرسخين ؛ لأنه أمره بالسعي بعد النداء ، ومن بعد فرسخين ، قد يخرج وقت الجمعة ولا يدركها ؛ فثبت أنه على ما دونه وهو أن يكون في حد الأمصار ، والله أعلم.
ثم الوقت الذي نهي عن البيع فيه يوم الجمعة : عن مسروق وجماعة : هو وقت الزوال إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة.
وعن مجاهد والزهري : أنه ينهى عن البيع بعد النداء ؛ عملا بظاهر الآية : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ، والأول أشبه ؛ لأنه إنما يجب الحضور إلى الجمعة عند دخول الوقت وهو زوال الشمس وإن تأخر النداء ؛ ولأن النداء بعد الزوال غير معتبر فكان وجوده وعدمه سواء.
__________________
(١) أخرجه مسلم (٢ / ٥٨٧) كتاب الجمعة ، باب : فضل من استمع وأنصت في الخطبة (٢٦ / ٨٥٧) من حديث أبي هريرة بنحوه.