وقوله ـ عزوجل ـ (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ).
قيل : نادى على قومه بالدعاء عليهم بالهلاك ، لكنه لم يظهر دعاؤه على قومه عندنا ، وإنما ظهرت منه المفارقة والمغاضبة على قومه بقوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) [الأنبياء : ٨٧] ، ولم يكن له أن يفارقهم ، فيقول : اصبر بما حكم عليك ربك من ترك المفارقة عن قومك ، ولا تكن كصاحب الحوت الذي فارق قومه قبل مجيء الإذن له من الله تعالى.
والثاني : أن يونس ـ عليهالسلام ـ لم يصبر على أذى قومه ، بل فارقهم حتى ابتلي ببطن الحوت ، ثم فزع بالدعاء إلى الله تعالى ؛ ليخلصه من بطنه ، فيقول : عليك بالصبر مع قومك ، ولا تكن كصاحب الحوت حيث لم يصبر مع قومه ؛ فابتلي بما ذكر حتى احتاج إلى أن ينادي في الظلمات : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] ، فتبتلى أنت أيضا بمثل ما ابتلي هو به ، ثم لا يجوز أن يلحقه [اللائمة](١) ويعاتب على ما دعا في بطن الحوت ؛ لأن ذلك عذاب ابتلي به ، ولا ينبغي للمرء أن يصبر على العذاب ، بل عليه أن يبتهل إلى الله تعالى ؛ ليكشف عنه ، وإنما لحقه اللائمة بمفارقة قومه وتركه الصبر معهم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ).
نعمة ربه (٢) : هو ما وفقه للتوبة والإنابة ، وما قبل منه توبته ، وكان له ألا يقبلها ؛ إذ هو إنما أتى (٣) بالتوبة بعد أن صار إلى تلك المضايق ، وابتلي بالشدائد وجاءه بأس الله تعالى ، ومن حكمه أنه لا يقبل التوبة بعد نزول العذاب والشدة ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ) إلى قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤ ، ٨٥] ، فإذا (٤) قبل توبته ، كان فيه عظيم نعمة من الله تعالى [عليه](٥).
وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ).
وهو المكان الخالي ، ولو لم يتب الله تعالى عليه ، لكان يلبث في بطنه إلى يوم يبعثون ، ثم ينبذ بعد ذلك بالعراء وهو مذموم ، لكن الله تعالى تفضل عليه بقبول توبته ؛ فنبذه بالعراء ، وهو سقيم أي : محموم ؛ فقوله : (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) ، لو عاقبه بالنبذ ، ولكن إنما نبذ بالعراء بعد قبول التوبة ؛ فلم يصر مذموما.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في أ : ربك.
(٣) زاد في أ : به.
(٤) في ب : فإذ.
(٥) سقط في ب.