وقوله ـ عزوجل ـ (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ).
فنعمته عليه كانت من ثلاثة أوجه :
أحدها : في تذكير الزلة ، وذلك كان بالتقام الحوت إياه ، وكان عنده أن مفارقته قومه لم تكن زلة ؛ لأنه إنما فارقهم لأن قومه كانوا له أعداء في الدين ، ففارقهم لينجو منهم ، وليسلم له دينه ولا يسمع المكروه منهم في الله تعالى.
والثاني : أن في مفارقته إياهم تخويفا منه لهم وتهويلا ؛ لأن القوم كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا عند ما يريد أن ينزل بهم العذاب ، وذلك مما يدعوهم إلى الإقلاع عما هم فيه ويدعوهم إلى الفزع إلى الله تعالى ، ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى كان محمودا مصيبا ؛ ولأن مفارقته إياهم هي التي دعتهم إلى الإسلام ، فأسلموا لقوله : (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [الصافات : ١٤٨] ، ومن كانت مفارقته لهذه الأوجه التي ذكرناها ، لم تعد مفارقته زلة ، بل عدت من أفضل شمائله ، ولكن لحقته اللائمة مع هذا كله ؛ لما ذكرنا أن الرسل لا يسعهم أن يفارقوا قومهم وإن اشتد عليهم الأذى من جهتهم إلا بعد وجود الإذن من الله تعالى ، وكانت مفارقته تلك بغير إذن ، والله أعلم.
ثم كان في ظنه أنه ليست تلك المفارقة زلة ، ألا ترى إلى قوله ـ تعالى ـ : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٧] ، قيل في التأويل : أي : لن نضيق عليه.
وقيل : أي : لن نعاقبه ، فلولا أن عنده أن تلك المفارقة ليست بزلة وإلا كان لا يظن هذا ؛ فتبين عنده بالتقام الحوت إياه وبما أفضى إليه من الشدائد أن تلك زلة منه ، وتذكير الزلة من إحدى النعم.
والنعمة (١) الثالثة : ما ذكرناها من توفيق الله تعالى إياه بالتوبة ، وإكرامه عليه بقبولها ، ومن حكمه ألا يقبل التوبة ممن جاءه بأس الله ، وأحاط به العذاب ، وهو إنما فزع إلى التوبة بعد ما عاين العذاب ، وجاءه بأس الله تعالى.
وجائز أن يكون حكمه هذا في الكفرة ، ليس في المؤمنين ؛ لأنه قال في آية أخرى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] ، ففيه إشارة إلى أن من سبق منه الإيمان قبل أن يأتيه آيات ربه أو سبق منه كسب الخير من بعد الإيمان ؛ فإن إيمانه في ذلك الوقت ينفعه ، وقال في أهل الكفر : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ* فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [غافر : ٨٤ ، ٨٥] ، فهذا حكمه في أهل الشرك ، وقال : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ
__________________
(١) زاد في أ ، ب : الثانية و.