على ما استتر منه ، ويصير الخفي له جليّا ، فيكون سبب بلوغه إلى اليقين والإحاطة الذي سبق منه ؛ فجائز أن يسمّى ذلك يقينا مرة على الحقيقة وظنّا ثانيا على المجاز ، على ما ذكرنا في قوله : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١٢] أن الأذن لا تعي شيئا ، بل تسمع ، ولكنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن ، فصارت الأذن سببا للإيصال إلى الوعي ، فأضاف الوعي إليها ؛ فعلى ذلك ظنونهم في الابتداء إذا بلغتهم إلى اليقين والعلم سمّوا يقينهم (١) وعلمهم ظنّا مرة ، ويقينا ثانيا ؛ ألا [ترى](٢) أن الله ـ تعالى ـ قال : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ، وقال في موضع آخر : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٤] ، فجعلهم مرة ظانين ، ومرة موقنين ، فيما كان [طريقته البحث](٣) وإعمال الفكر ؛ ولهذا لا يجوز أن يوصف الله ـ تعالى ـ بالإيقان في أمر من الأمور ؛ لأن الأشياء له بارزة ظاهرة ؛ إذ هو منشئها وخالقها ؛ فلا يخفى عليه شيء منها فيحتاج إلى البحث عنها والنظر فيها ، والله الموفق (٤).
أو نقول بأن الأمور التي سبيل (٥) دركها الاجتهاد ، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها ، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها إلى الظنون (٦) فاستجازوا إطلاق الظن فيها ؛ لما لا تخلو عنه ، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين (٧) والإحاطة ؛ ألا ترى أن من تهدد بالوعيد الشديد ، أو بالقتل على أن يكفر بالله ـ تعالى ـ أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه ، وجعل كالموقن بإحلال العذاب من المكره ، لو امتنع عن الإجابة إلى ما دعاه و [إن](٨) لم يتيقن بأنه يفعل به لا محالة ما أوعد به ؛ لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك ، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت ، ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن ، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين ؛ فعلى ذلك هاهنا لما غلب دلالات اليقين والصدق ، جاز إطلاق لفظة اليقين عليه ، فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات ، فلا سبيل إلى تسمية مثله ظنّا ؛ لما لا يحتمل اعتراض الشبه فيها ، والله الموفق.
__________________
(١) في ب : نفسهم.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : طريقا للبحث.
(٤) في ب : والله أعلم.
(٥) في ب : سبب.
(٦) في أ : الجنون.
(٧) في أ : النفس.
(٨) سقط في ب.