نافرة عن الضر ومبغضة له ، وقال الله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١٧] ، وقال في موضع آخر : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠] ، أي : لا يسخو على إخراج ما في يديه.
ففي هذه الآيات إنباء أن الإنسان خلق على هذه الأحوال : قتورا عجولا ، هلوعا ، فلما أنشئ على حب ما ينفعه وبغض ما يكرهه ويتألم به ، علم أنه خلق على هذه الأحوال ؛ للمحنة ، فمن تذكر فيما وعد الله تعالى من النعم لمن قام بوفاء ما أمره به ، حمله ذلك على التسارع في الخيرات وترك ما يحبه في الدنيا ؛ لينال الموعود في الآخرة ؛ إذ هو في الأصل أنشئ محبّا لما يتلذذ به ، ومن تذكر ما أوعد من العذاب بما يعطي نفسه من الشهوات من معاصي الله تعالى ، وبما يمنع من حقوق الله تعالى الواجبة في ماله ، سهل عليه ترك الشهوات ، وخف عليه بذل ما طلب منه ؛ لئلا يحل به ما ينغص بعيشه من الآلام والأوجاع والمكاره.
والأصل أن الإنسان وإن كان مطبوعا على هذه الأخلاق الذميمة من البخل ، والإقتار ، والعجلة ، وجبل عليها ، فقد ملك رياضة نفسه ، ويمكنه أن يستخرجها من تلك الطباع الذميمة إلى أضدادها من الأخلاق الحميدة ، والشمائل المرضية ؛ فلزمه القيام بذلك ؛ ألا ترى أنه يتهيأ له أن يقوم برياضة الدواب والسباع ، فيخرجها بالرياضة عن طباعها التي أنشئت عليها من النفار عن الخلق والامتناع عن الانقياد ، حتى تصير منقادة للخلق ، ذليلة لهم ، فيتهيأ لهم الاستمتاع والتوصل إلى منافعها ، فكذلك الإنسان إذا قام برياضة نفسه أمكنه أن يستخرجها عن خلقها ؛ فتصير مطيعة له ، ويخف عليها بذل ما يطلب منها ، ويسهل عليها تحمل ما كان يشتد عليها.
ثم الأصل : أن المرء ، وإن جبل على حب ما يتلذذ به ، وبغض ما يتألم ويتوجع [منه](١) ، فقد جبل أيضا على ترك ما هو فيه من اللذة ؛ للذة هي أعظم منها ، وعلى التصبر لاحتمال الأذى والمكروه ؛ ليتخلص عما هو أعظم من ذلك المكروه والألم ، وإذا كان كذلك فهو إذا قابل نعيم الدنيا بنعيم الآخرة ، وأقرب اللذتين بأبعدهما ، فرأى لذة الآخرة أعظم وأبقى ، خف عليه ترك أقربهما لأبعدهما وأقلهما لأكثرهما ، وإذا قابل مكروه الدنيا بمكروه الآخرة ، وعذابها بعذاب الآخرة ، فرأى عذاب الآخرة أشد وأبقى ، خف عليه تحمل المكاره في الدنيا ؛ فهذا السبب الذي ذكرنا ما (٢) يتوصل به إلى رياضة النفس.
والذي يدل على أن المرء قد يخف عليه تحمل الشدائد وترك اللذات الحاضرة ؛ لما
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : فما.