يأمل من اللذات الآجلة أنك ترى المرء قد يهون عليه الضرب في الأرض ، وقطع الأسفار ، وتحمل المؤن ، وركوب الأهوال والفظائع ، والانقطاع عن اللذات ؛ كالذي يخرج للتجارة من بلده إلى بلاد نائية ؛ لما يرجو من النفع والربح في ذلك ، فتحمل ما يمسه من المكاره والمؤن ، لما يطمع من نيل اللذات التي هي أعظم من اللذات التي تركها ؛ فعلى ذلك إذا تفكر في نعيم الآخرة ، وتفكر في عقابها ، سهل عليه ترك اللذات الحاضرة ، وخف عليه تحمل المكاره في الدنيا.
ووجه آخر : أنه لما جبل على حب اللذات وبغض المكاره ، أمر أن يجعل ما يحبه من العاجل آجلا ، فيكون شغله أبدا فيما (١) يوصله إلى نعيم الآجل ، وأمر أن يجعل هربه عن الآلام الآجلة ، فيجتهد فيما فيه التخلص والنجاة عن تلك الآلام ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) معناه ـ والله أعلم ـ : لأن المصلين يقومون برياضة أنفسهم حتى يصرفوها عن خلقتها (٢) التي أنشئت عليها (٣) ، ثم بين أن الذين يقومون برياضة أنفسهم هم الذين يقومون على صلواتهم (٤) دون الذين يقومون إلى الصلاة كسالى ولا يدومون عليها ، ولا ينفقون من أموالهم إلا عن كراهة.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) دوامهم عليها في لزوم ما عرفوها ، وهو أن يقيموها في أوقاتها ، ويحافظوا عليها دون أن يكون دوامهم أن يكونوا فيها أبدا ؛ ألا ترى [إلى](٥) ما روي عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» وأراد بقوله : «أدومها» : لزومها في الوقت الذي أوجبوا فعل ذلك على أنفسهم ، لا أن يكونوا أبدا فيها ؛ لأنهم إذا بقوا فيها أبدا ، كثر ذلك منهم ، فلا يكون لقوله : «وإن قل» معنى ، فثبت أن معنى الدوام ما وصفنا ، والله أعلم.
وجائز أن يكون المراد من المداومة هو أن يدوم على الأحوال التي تليق بالصلاة عند كونه فيها من الإقبال على المناجاة ، وترك الالتفات ، وتفريغ القلب عن الأشغال والوساوس.
وقال بعضهم : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) : هو التطوع ، و (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المؤمنون : ٥] : الفريضة.
__________________
(١) في ب : فما.
(٢) في ب : خلقها.
(٣) في ب : عليه.
(٤) في ب : صلاتهم.
(٥) سقط في ب.