كانت العبادة منصرفة إلى إتيان الأفعال (١) ، وانصرف التقوى إلى اتقاء المهالك ، وهو كما قلنا في البر والتقوى : إن كل واحد منهما إذا ذكر مفردا اقتضى ما يقتضيه الآخر ، وإذا جمعا في الذكر ، صرف أحدهما إلى جهة والآخر إلى جهة أخرى ، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أفرد بذكر أحدهما يكون معنى كل واحد منهما هو معنى الآخر ، وإذا جمعا في الذكر صرف كل واحد منهما إلى جهة على حدة.
وقال الحسن في قوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّقُوهُ) ، أي : اتقوا الله في حقه أن تضيعوه فهو يجمع ما يؤتى (٢) وما يتقى.
ثم الأصل أن الطاعة قد تكون لمن سوى الله ، والعبادة لا تكون إلا لله تعالى ؛ فلذلك قال عند الأمر بالعبادة : (اعْبُدُوا اللهَ) ، فأضافها إلى الله تعالى ، وأضاف الطاعة إلى نفسه بقوله : (وَأَطِيعُونِ) ، ففيه دلالة أن ليس في الطاعة لآخر إشراك بالله تعالى في الطاعة ، بل الله تعالى جعل الإشراك في الطاعة بقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وذم من يعدل بالله تعالى في العبادة بقوله تعالى : (وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١٥٠] ، فالعبادة كأنها تقتضي الخضوع والتضرع على الرجاء والخوف ، والله تعالى هو الذي يرجى منه ويخاف من نقمته ، فأما الطاعة فهي تقتضي فعلا [على الأمر](٣) لا غير ؛ وعلى ذلك لما صرفت الكفرة الرجاء والخوف إلى الأصنام بقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، سموا (٤) : عباد الأصنام ، فكل من يفعل الفعل على الخوف والرجاء فذلك منه عبادة له.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إن صرفت قوله : (وَاتَّقُوهُ) إلى اتقاء الشرك يرجع قوله : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إلى ما سلف من الذنوب في حالة الشرك ؛ كقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].
وإن صرفته إلى سائر وجوه المهالك ، رجع إلى السالف وإلى الآنف جميعا ؛ وهو كقوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] ؛ فيكون قوله (مِنْ) صلة على ما ذكره أهل التفسير ، ومعناه : يغفر لكم ذنوبكم.
وجائز أن يكون قوله : (مِنْ) على التحقيق ليس على حق الصلة ؛ لأنه قد يكون من الذنوب ذنوب يؤاخذ بها بعد الإسلام ، وهي التي تكون بينه وبين الخلق من القصاص
__________________
(١) في ب : الفعل.
(٢) في أ : يؤدي.
(٣) سقط في أ.
(٤) في ب : فسموا.