ثم فيما حكى الله تعالى عن الجن من تصديقهم هذا الكتاب واستماعهم ما جرى من المخاطبات فيما بينهم ـ فوائد :
إحداها : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس حتى صرف الجن إلى الاستماع إليه.
وفيه أنهم لما أخذوا القرآن من لسانه قاموا (١) فيما بين القوم بإنذارهم ، وأعانوه في التبليغ على ما أخبر ـ عزوجل ـ (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩].
وفيه أن أولئك النفر تسارعوا إلى الإجابة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فيكون فيه تسفيه قوم رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذين نشأ بين أظهرهم ؛ لأنهم عرفوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم [فيما بينهم](٢) بالصيانة والعدالة ، ولم يقفوا منه على كذب قط ، وحق من يعرف بالصدق إن لم يصدق ألا (٣) يتسارع إلى تكذيبه فيما يأتي [به] من الأنباء ، بل يوقف في حاله إلى أن يتبين منه ما يظهر كذبه ، وقومه استقبلوه بالتكذيب ، ولم يعاملوه (٤) معاملة من كان معروفا بالصدق والصيانة ، والجن الذين صدقوه ، لم يكونوا عارفين بأحواله فيما قبل أنه صدوق ، أو ممن يرتاب في خبره ، ثم تسارعوا إلى تصديقه ؛ لما لاحت لهم الحجة وثبتت عندهم آية الرسالة وعاملوه (٥) معاملة من قد عرف بالصدق ؛ فدل أنهم كانوا في غاية من السفه.
وفيه ـ أيضا ـ دلالة رسالته صلىاللهعليهوسلم ؛ لأن قوله تعالى : (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ..). إلى آخر القصة فيما بينهم ـ إخبار عن علم الغيب وهذا لا يعرف إلا بمن عنده علم الغيب ؛ فثبت أنه بالله تعالى علم.
ثم يجوز أن يكون الذي حملهم على الإيمان به ما عرفوا أنه أتى بالمعجز الذي يعجز الخلق عن الإتيان بمثله ، وبما وقفوا على إحكام معانيه وحسن تأليفه ونظمه.
وفيه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يشعر بمجيئهم حتى أوحي إليه أنه قد أتاه نفر من الجن ، واستمعوا إلى ما أوحي إليه ؛ فيكون فيه دلالة على فساد قول الباطنية ؛ حيث يزعمون أن [رسول الله](٦) صلىاللهعليهوسلم قبل الوحي بالجسد الروحاني ؛ لأنه لو كان كما وصفوا ، لرأى الجن عند ما حضروا إليه ؛ إذ الجسد الروحاني مما يبصر الجن ، ولم يكن يوحى إليه ، فيعرف أن
__________________
(١) في أ : قالوا.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : لا.
(٤) في ب : يعاملوا معه.
(٥) في أ : وعاملوا معه.
(٦) في ب : النبي.