اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)(١٩)
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ).
قال بعضهم : (الصَّالِحُونَ) هم المؤمنون و (دُونَ ذلِكَ) هم الكافرون.
ويشبه أن يكون (الصَّالِحُونَ) ، و (دُونَ ذلِكَ) ليس على الإيمان والكفر ؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) ، ولو كان التأويل على ما ذكروا ، لكان يقع موقع التكرار ؛ ولكن تأويله عندنا : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) ، أي : منا من عرف بالصلاح والستر ، (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) وهم الفسقة ؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي ، وفيهم الفاسق المفسد في دينه ؛ قال الله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) [النور : ٣٢] ، ولو لم يكن منا غير صالح ، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى ، وكقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ، فلو لم يكن منا أهل فسق ، لما قال (١) هذا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً).
أي : أهواء متفرقة ، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون ، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح ؛ لأن أهل الأهواء كلّ [يظن] في نفسه : أنه هو المحق ، وغيره على الباطل ، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له ، ويرتكب ما نهي عنه ، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل ؛ وإن كان كذلك ، ظهر الدون فيه ، وظهر الصالح ، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب ؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصالح.
ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء ، والقدد : القطع ، يقال : قدّه ، أي : قطعه ، فمعناه : أنا كنا على مذاهب متفرقة ، وأهواء متشتتة ، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة ، كما [أن](٢) ذلك في الإنس ، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدين الفكر والاجتهاد [ليتوصل به](٣) إلى الحق ، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة ، ويزيغ عنه أخرى ؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم ، ومنهم من زاغ عنه.
ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد ، وهو الفكر ، وله الاجتهاد ، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس ؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ ؛ لذلك تفرقوا على أهواء [متفرقة](٤) مختلفة ، وأما أسباب الفسق مجتمعة ، فتعرف بالمعاينة ، فيظهر الأدون والأرفع في الدين.
__________________
(١) في أ : لم يقل.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : المتوصل.
(٤) سقط في ب.