وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) : ذكر أبو بكر الأصم أنه على كفرهم ظنوا ألا يعجزوا الله تعالى.
ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم ، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة ـ رضي الله عنها ـ فإنها كانت تقرأ : وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض فررة ولن نسبقه هربا.
فقوله : (لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي : لن نفوته ، ولا يتهيأ لنا أن نعجز الله بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا.
ويخرج قوله : (فررة) على ذلك ، أي : لو فررنا من عذابه ، لن نعجزه ألا يعذبنا.
والفرار قد يكون بدون الطلب ؛ قال الله ـ عزوجل ـ : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات : ٥٠] ، ولم يرد به الفرار من الطلب ، وأما الهرب فإنه لا يكون إلا عن طلب ؛ فكأنهم قالوا : لا يتهيأ لنا الفرار عن عذاب الله تعالى ؛ لكثرة الأعوان والأنصار ، ولا يعجزه هربنا عن طلب.
أو أن يكون قوله عزوجل : (لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين ، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض ، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب الله تعالى ، كما يتهيأ الاحتراز عن ملوك الأرض بالحيل والأسباب.
ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام ؛ لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف حلول نقم الله تعالى عليه ، والذي أيقن بالبعث ، ويذكر مقامه بين يدي ربه (١) ، وأما أهل الكفر : فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا ؛ فثبت أن هذه المقالة صدرت عن أهل الإسلام ، ليس عن أهل الكفر ؛ كما ذكره أبو بكر الأصم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ).
فالهدى هو الدعاء إلى الحق ، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق ـ وهو القرآن ـ آمنا به ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) [يونس : ٣٥] ، أي : يدعو إليه ، وقال [الله تعالى](٢) في أول السورة : (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن : ٢].
ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء ، أي : لما سمعنا ما به اهتدينا.
__________________
(١) في ب : الله.
(٢) سقط في ب.