وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى فآمنوا به ؛ لأنه لو كانوا على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا ؛ فلا يكون لقوله : (آمَنَّا بِهِ) وقد آمنوا من قبل ـ معنى ، وليس يثبت كفرهم بما ذكر ؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا على الإيمان فلما سمعوا الهدى ، أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة ؛ ألا ترى إلى قوله ـ عزوجل ـ : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] ، وقال : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] ، أي : زادوا إيمانا ؛ [بالتفسير على](١) ما سبق منهم من الإيمان بالجملة لأنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين ، فأحدثوه للحال ، وكذلك قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] ، وقد هدوا الصراط (٢) المستقيم ، ولكنهم يريدون بهذا الدعاء أن اهدنا بالإشارة والتعيين إليه الصراط [المستقيم](٣) على ما هديتنا في الجملة ؛ فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى لا ينفي عنهم الإيمان فيما سبق من الأوقات ، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل ، ثم يحدثوا الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند الله ـ عزوجل ـ ، ولا يدل إيمانهم [به](٤) على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).
قال ـ رحمهالله ـ : إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من الله تعالى إلا المعتزلة ؛ فإنهم يخافون ذلك ؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان ، ثم يطلقون القول فيهم : إنهم يخلدون (٥) في النار ، وفي التخليد خوف البخس والرهق ، بل فيه ما يزيد على البخس ؛ لأن البخس هو النقصان ، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم.
وقال تعالى : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) [البقرة : ٢٨٦] ، والمعتزلة تزعم أنه [لو](٦) آخذهم بالخطإ والنسيان ، كان جائرا.
وقال : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨] وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى ، كان ذلك منه جورا وظلما ، فهم أبدا على خوف من جور ربهم.
ونحن نقول بأنه لو آخذهم به ، كان يكون ذلك منه عدلا ، وإذا عفا عنهم ، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا ، فنحن ندعو الله تعالى ، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك ، بل
__________________
(١) في أ : لتفسير.
(٢) في ب : للصراط.
(٣) سقط في ب.
(٤) سقط في ب.
(٥) في ب : مخلدون.
(٦) سقط في ب.