وأما في يوم بدر ، فقد كانوا أكثر عددا من المسلمين ؛ فلم يتبين لهم أنهم أقل في العدد.
ويجوز أن يوم بدر يكون المسلمون أكثر عددا ؛ لأن الله تعالى أمد المسلمين بملائكته ؛ فصار عددهم أكثر في التحقيق ، وإن كانت الكفرة في رأي العين أكثر منهم عددا.
ثم يشبه أن تكون هذه الآية نزلت على أثر تخويف الكفرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بكثرة عددهم وقوتهم (١) في أنفسهم ، وقلة عدد المسلمين ، فوعد الله تعالى نبيه صلىاللهعليهوسلم بالنصر وكثرة العدد عند وقوع الحاجة إليها ، وبالله التوفيق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) :
فهذا ذكره عند ذكر الوعيد ، وهو قوله : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) ، فكأنهم سألوه : متى وقت هذا الوعيد؟ فأمر أن يقول : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً).
قد ذكرنا فيما تقدم من الآيات : أن ليس في بيان وقت الوعيد فضل يقع في الوعيد ؛ بل إذا لم يبين وقت الوعيد ، كان فيه فضل تخويف وتحذير لا يوجد فيما يبين ؛ لأنه إذا بين ، فإن كان فيه أمد سوّف الناس وأخروا التوبة ؛ لما أمنوا حلول النقمة بهم إلى مجيء ذلك اليوم ، وإذا لم يمهلوا صاروا إلى الإياس ؛ فيرتفع الخوف والرجاء ، وفيه ارتفاع المحنة ؛ لأن المحنة في الأصل بالعمل على الرجاء والخوف.
ولأنه إذا لم يبين ، كانوا على الحذر والخوف ؛ فيحملهم ذلك على التسارع في الخيرات والإقلاع عن المساوئ ؛ فأمر أن يقول هذا ، وإلا فالذي أمره بأن يقول هذا عالم بالوقت الذي يقع فيه الوعيد.
وقوله عزوجل : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) الأصل فيما غيب الله تعالى عن الخلق أنه على منازل ثلاثة :
أحدها : ما قد أعجز الخلق عن (٢) احتمال الوقوف عليه بالخلقة ، نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء ، لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي به صلح أن يكون كيانا ، لم يقف عليه ، ونحو الماء جعل حياة لكل شيء ، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح أن يجعل حياة ، لم يقف عليه (٣) ، وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا.
__________________
(١) في ب : وقولهم.
(٢) في ب : على.
(٣) زاد في ب : أحد.