والثاني : ما أمكن الخلق معرفته وبلوغه إليه بالتأمل والنظر ، بدون معرفة السمع والأثر ، نحو معرفة الصانع ومعرفة وحدانيته.
والثالث : هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه ، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد ، بقوله : (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) في هذا ، وهو الذي مكنوا منه (١) ، لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر ، وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق (٢) والتي توصل إلى مصالح الأغذية فيما (٣) ظهر بين الخلق ، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع ، ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم ، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر ؛ فبين أن ذلك بالرسول ، ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة.
ثم ذكر بعضهم : أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة ، وليس كذلك ؛ لأن فيهم من يصدق خبره ، ويعرف المطالع ، والمغارب ، والمشارق ، والكواكب التي بها يتوالد الخلق ، والتي يقع عندها التغير والتبدل ، وذلك مما لا يقف على علمه بالتأمل والتدبر.
وكذلك المتطبعة : منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا ، وهذا يصلح لكذا ، فيقع به المصالح للخلق ، ومعلوم أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر ؛ فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره ، وبقي علمه في الخلق ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) ، أي : اختاره واصطفاه ، والأصل أن الرسالة تلزم الخلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم ؛ لقوله (٤) : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء : ٦٥] ، وبالإصابة في كل أمر فيما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر ؛ فهو لا يختصه للرسالة ، وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق ؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما يبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم [ودينهم ودنياهم](٥).
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً).
قيل : رصدا من بين يدي الرسول ، ومن خلفه من الملائكة ؛ ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم الرسل عن التبليغ ؛ حتى يبلغوا ، ذكر هذا عن الحسن البصري رحمهالله.
__________________
(١) في أ : فيه.
(٢) في ب : العباد.
(٣) في ب : فما.
(٤) في ب : بقوله.
(٥) في ب : ودنياهم ودينهم.