والجواب عن هذا : أن هذا الذي وصفه غير مستقيم في الشاهد ؛ لأن منافع ما يفعله العباد ومضاره ترجع (١) إلى أنفسهم ، وليس من العقل أن يفعل المرء فعلا يعلم أنه يضره ، وأما رب العالمين فإنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه ؛ فجاز أن يخلق خلقا يعلم أنه يختار عداوته ؛ ليظهر عند الخلق أنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه بعد أن يكون في الحكمة ذلك ، والله أعلم.
ثم في قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) و (عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] و (الْوَكِيلُ) [آل عمران : ١٧٣] و (بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤] إلزام المراقبة والتحفظ والتيقظ وبيان الترغيب والترهيب ؛ لأنه إذا علم المرء أن عليه في كل ما يفعله رقيبا يتيقظ ، ولم يفعل إلا ما يرضي به ربه ، والله المستعان.
وقوله ـ عزوجل ـ : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ).
قد وصفنا أن الحق إذا جرى ذكره يصرف في كل شيء إلى ما هو أليق به ؛ فإذا ذكر في الأخبار أريد به : الصدق ، وإذا ذكر في الأحكام أريد به : العدل ، وإذا ذكر في الأقوال أريد به : الإصابة ، فلما قال : (بِالْحَقِ) هاهنا [فكأنه](٢) أراد به : الحكمة ، كأنه يقول : خلق السموات والأرض بالحكمة.
وقال بعضهم : (بِالْحَقِ) يعني : للحق ، وهو البعث ، فكأنهم عنوا به : أن الله تعالى لم يخلقهما عبثا بل خلقهما للعبادة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يحتمل هذا وجهين :
أحدهما : (فَأَحْسَنَ) ، أي : أتقن ، وأحكم ، ومعنى ذلك : أن الله تعالى خص صور بني آدم في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على [وحدانية الله](٣) تعالى ، وأما غيرهم من الصور فإنما يقع الاستدلال لغيرها بما ليس لنفس تلك الصور حقيقة المعرفة والاستدلال بوحدانية الله تعالى ؛ ولذلك كان خلق صور بني آدم أتقن وأحكم ، والله أعلم.
والثاني : أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر ، ومعنى ذلك : أن الله تعالى خلق بني آدم على صورة لا يودون أن يكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق ، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة ، فذلك معنى قوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، والله أعلم.
__________________
(١) في أ : ومضارهم يرجع.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : وحدانيته.