الملأ الأعلى ـ معرضين ؛ وذلك يكون في طاعته ، والإقبال على عبادته ، وهو كقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] معناه : أنكم تصيرون به مذكورين ، ويعظم قدركم لو اتبعتموه ، ولم تضيعوا حرمته.
وقوله ـ عزوجل ـ : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ)
بنصب الفاء وخفضه.
فمن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها ، كأنه يقول : حمر نافرة ، ونفر واستنفر واحد ؛ كما يقال : استرقد القوم ، أي : رقدوا.
ومن قرأ بنصب الفاء ، فتأويله : أنه فعل بها ما يحملها على النفار ، وذلك يكون بالرمي وبالقانص من الأسد ، كما ذكره أهل التفسير في تأويل القسورة هي الأسد ، أو الرماة ، أو الصيادون.
ويقال : هي النفرة (١) ، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار.
ووجه التقريب هو أن هؤلاء أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب ، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك.
وفي هذه الآية تبين شدة سفههم وغاية جهلهم ؛ لأن الحمر (٢) تنفر عن القانص والرامي والأسد ؛ لتسلم من الهلاك والعطب ، وهؤلاء الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم ؛ فهم أشر من الحمير وأضل.
وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً).
قال بعض أهل التأويل : إن المشركين قالوا : يا محمد ، بلغنا أن الرجل في بني إسرائيل كان إذا أذنب ذنبا ، فيصبح ، وجد صحيفة معلقة على باب داره أو مكتوبا عند رأسه : إنك أذنبت كذا.
وزاد بعضهم : إنك أذنبت كذا ، وتوبتك كذا.
وسألوا النبي صلىاللهعليهوسلم أن يجعلهم كذلك ؛ فأخبر الله تعالى ذلك عنهم ، ثم آيسهم عن ذلك ، فقال : (كَلَّا) ، أي : لا تنالون ما تأملون.
وقال قتادة : قالوا : يا محمد ، إن سرّك أن نتبعك فائت كل واحد منا بصحيفة خاصة : إلى فلان بن فلان ، تأمرنا فيها باتباعك (٣).
__________________
(١) في ب : البقرة.
(٢) في ب : الحمير.
(٣) أخرجه ابن جرير (٣٥٥١٩) وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٤٦١).