وقيل : سألوا أن يؤتوا ببراءة بغير عمل.
ولكن لا يجب قطع الأمر على واحد من هذه التأويلات ، بل يقال بها على جهة الإمكان والاحتمال ؛ لأن هؤلاء المفسرين لم يشاهدوا أولئك القوم الذين صدرت منهم هذه الإرادة ؛ ليخبروهم ما ذا أرادوا به؟ حتى يثبت ما ذكروا من القصة والأخبار ، ولا تواترت الأخبار من عند ذي الحجّة النبي صلىاللهعليهوسلم : أنهم سألوه ذلك ؛ لذلك لم يستقم قطع الأمر على ما ذكروا.
وجائز أن تكون هذه الإرادة تحققت في بعض الكفرة وهم الرؤساء منهم والأكابر ، لا أن أراد كلّ في ذات نفسه أن يؤتى صحفا منشرة.
والإرادة هاهنا عبارة عن الطلب ، ثم طلبهم ما ذكر يتوجه إلى أوجه ثلاثة :
أحدها : أن يكون كل واحد من عظمائهم ود أن يكون [هو](١) المخصوص بإنزال الكتاب عليه ؛ كما قال في آية أخرى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] ؛ فيكون في هذا إظهار استكبارهم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، على جهة التعنت والعناد ؛ ليصير ذلك آية لهم في تحقيق رسالة النبي صلىاللهعليهوسلم ، كما قال الله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ..). إلى قوله : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣] ، ففي هذه الآية إبانة أنهم كانوا يطلبون إنزال الكتاب عليهم ؛ ليتقرر لديهم رسالة [نبينا](٢) محمد صلىاللهعليهوسلم ، وكان ذلك على جهة التعنت والعناد ؛ وإلا لو تفكروا في حاله أداهم ذلك إلى العلم برسالته من غير أن يحتاجوا إلى تثبيت رسالته بكتاب ينزل عليهم ، والله أعلم.
وجائز أن يكونوا رأوا أكابرهم أحق بالرسالة من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأولى بإنزال الكتاب عليهم ؛ لما رأوهم أفضل من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ألا ترى إلى قوله : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، وقال في آية أخرى : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) [ص : ٨] ، فأرادوا أن يؤتوا صحفا منشرة لهذا المعنى ؛ إذ هم أولى أن يخصوا بهذه الفضيلة.
وإنما ذكرنا هذه التأويلات في هذه الآية ؛ لأن هذه المعاني التي ذكرناها قد ظهرت منهم بمتلو القرآن ، والتأويلات التي ذكرها أهل التفسير لا يتهيأ تثبيتها من جهة الكتاب ولا من جهة الإخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ فصارت هذه التأويلات أمكن وأملك بالآية من غيرها ، والله أعلم.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) سقط في ب.