ذلك ، حذرهم بعقوبات تنزل بهم لو لم ينتهوا عما هم فيه من الطغيان.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) ، أي : شدة أمرهم ، ويحتمل أن يكون عاقبة أمرهم.
وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فيه إخبار أن ما نزل بهم من العذاب في الدنيا ، لم يكفر عنهم الذنب ، أعني : ذنب الكفر ، وأن عذاب الدنيا إنما كان جزاء شرهم في الكفر ، وأنه يعذبهم في الآخرة عذاب [الكفر والشرك](١) ، والله أعلم.
وقوله ـ تعالى ـ : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا).
فكأنه يريد بقوله : (ذلِكَ) أي : تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية ، إنما كان سببها : أن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات ، (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) ، وكان قولهم : (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) تلقين إبليس ؛ حيث لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه ، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكثر منزلة ، فإذا لم تطيعوه فكيف تطيعون بشرا مثلكم؟! وهذا كله عناد وخطأ ، وذلك أنهم قد كانوا يعبدون الأصنام ؛ تقليدا منهم لبشر ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] ، ومعلوم أن جعل الأصنام معبودا يعبدونه بقول البشر ؛ تقليدا له ـ أكثر وأعظم من تصديق البشر : أنه رسول من عند الله ـ تعالى ـ عند قيام الدليل المعجز ، فإذا استجازوا تقليد البشر في ذلك ، فكيف لا استجازوا تصديق الرسول فيما يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته فيما يرجع إليهم من المنافع والمضار ، ولكنهم كانوا قوما سفهاء ، فاتبعوا سفههم وعنادهم ، والله أعلم.
وكذلك قولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠] ، وكيف يكون سحرا ، وقد أتاهم بآيات أعجزتهم وأعجزت السحرة أن يأتوا بمثلها؟! ولكنهم عاندوا ، ولم يجدوا حيلة سوى أن قالوا : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) [المائدة : ١١٠].
وقوله : (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ).
أي : كفروا بالرسل (وَتَوَلَّوْا) : أعرضوا عن طاعته ، وطاعة رسوله.
وقوله : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) لم يسمع من أحد من المتكلمين يقول : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) على الابتداء إلا ما ذكر في ظاهر هذه الآية ، والقول [في الاستغناء فيما يريد به الإخبار جائز ؛ نحو قولك : الله مستغن ، فأما أن تبتدئ ، فتقول : الله مستغن ، فيما فيه شك وريب ، فإنه لا يجوز البداية به](٢).
__________________
(١) في ب : الشرك والكفر.
(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : بذاته به.