ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة الله تعالى ، وآمن بالبعث والحساب ، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته ؛ فقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه.
وجائز أن يكون أريد بها الأنفس ، وتكون الوجوه كناية عنها ، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) ، والوجوه لا تظن ذلك ، ولا تعلم به ، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية ، لا أن أريد بها أعينها ، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس ؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر ، ونالت شهوتها ، ظهر سرور ذلك في وجهه ، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن ، ظهر أثر الحزن في وجهه ؛ فيكون في قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات ، ووصلوا إلى أنواع اللذات ، لم يبق لقوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) موضع ، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر ؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني : أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق ، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه ، ويكون تركهم (١) الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به ؛ فجائز أن يكون الله تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه ، ويتفضل عليهم بذلك.
وجائز أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) منصرفا إلى انتظار الثواب ؛ كما قاله بعض أهل التأويل (٢) ، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه ؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات [كرامات](٣) وتحف أخر لم تأتهم بعد ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) والبسور من أدنى أحوال التغير ، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح ؛ فإذا لم يحل بهؤلاء بعد غاية ما أوعدوا من العذاب ، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعد إلى أقصاها ، ولم ينالوا بعد أرفعها ؛ وإنما أكرموا ببعضها ، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
وجائز أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، أي : نجعل نظرها فيما أكرمت إلى الله تعالى ، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه ، والله أعلم.
وجائز أن يكون قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما
__________________
(١) في أ : بركة.
(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٣٥٦٥٦ ، ٣٥٦٦٠).
(٣) سقط في ب.