والوجه الثالث : قد أتى عليه حين من الدهر ، ولم يكن مذكورا في الممتحنين ، وهذا في كل إنسان ؛ لأنه ما لم يبلغ ، لم يجر عليه الخطاب ، ولم يكن مذكورا في الممتحنين ؛ فالله تعالى [خلق الخلائق ليعبدوه بقوله :](١)(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، فقوله : (لِيَعْبُدُونِ) إذا صاروا من أهل المحنة ، فإلى أن يبلغ قد أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن مذكورا في جملة من خلقوا للعبادة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) ، والإنسان لم يكن إنسانا في النطفة ، ولا في العلقة ، ولا في المضغة ؛ ولكن المقصود من إنشاء النطفة والعلقة هذا الإنسان ، والعواقب في الأفعال هي الأوائل في القصد والمراد ؛ فاستقام إضافته إلى ما ذكرنا ؛ لما رجع إليه القصد من إنشائها.
وروي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إذا أردت أمرا فدبّر عاقبته ، فإن كان رشدا فأمضه ، وإن كان غيّا فانته» ؛ فألزم النظر في العواقب ؛ فثبت أن المقصود من فعل أهل التمييز العاقبة ؛ وإذا كانت العاقبة مقصودا إليها في الابتداء صارت العاقبة كالموجود في الابتداء ؛ لذلك استقام إضافة الإنسان إلى النطفة والعلقة والمضغة.
ثم قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) منصرف إلى أولاد آدم ـ عليهالسلام ـ فيكون المعنى من الإنسان أولاده ، ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهم ـ وهو الموت ـ ليتعظوا به ، ويتذكروا.
ووجه الاتعاظ : هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم ، وعلموا ما ينتهي إليه عاقبتهم ، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم ، بل عارية في أبدانهم ؛ إذ لم يكن منهم صنع (٢) في الابتداء ، أو أمانة ، والحق على الأمين أن يقوم بحفظ الأمانة ورعايتها ، وألا يخون صاحبها فيها ، فإن هو خانها ، ولم يتول حفظها ـ لحقته المسبة والمذمة ، وإن (٣) حفظها ورعاها حق رعايتها ، استوجب الحمد والثناء من صاحبها.
والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية ، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له ، وألا يضيعها ، فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه إياها ، وكذلك (٤) إذا علموا أنها في أبدانهم (٥) عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها ؛
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في ب : صنيع.
(٣) في ب : فإن.
(٤) في ب : ولذلك.
(٥) في ب : أيدهم.