ولكنه يبتليه ليظهر للمبتلي ما كان خفيا عليه بفعله وتركه ، وأما الخلق فهم يمتحنون ، ويبتلون ؛ ليظهر لهم ما كان خفيا عليهم ؛ فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتحن.
والثاني : أن الابتلاء لما كان لاستظهار ما خفي من الأمور ، وذلك يكون بالأمر والنهي ؛ فسمي الأمر من الله تعالى والنهي لعباده : ابتلاء ؛ لمكان الأمر والنهي ، لا على تحقيق معنى الابتلاء منه.
وقال الحسن : لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى الله تعالى وإن كان هو خبيرا عما استخبر ؛ فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا ، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا ، ولأن الذي يظهر من العبد بعد الابتلاء من الفعل كان غائبا ، فالله ـ تعالى ـ يعرفه شاهدا بفعله ، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا ؛ لأن معرفة ما يكون أن يعرف قبل كونه غائبا ، وبعد كونه شاهدا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) :
أي : جعلنا له سمعا يميز بين ما يؤدي إليه سمعه ، وجعلنا له بصرا يبصر به ما أدى بصر الوجه ؛ ليضع كل شيء موضعه ؛ وذلك هو بصر القلب وسمع القلب ؛ لأنه قد خص البشر بالابتلاء ؛ لمكان بصر الباطن والسمع الباطن ؛ ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر ، وكذلك السمع.
ويحتمل : أي : جعلناه سميعا بصيرا يبصر ما له ، وما عليه ، وما ينفعه ، وما يضره ، ثم أنشأ فيه السمع والبصر ، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه ، ولا ماهيته ، ولا ممن هو؟ لطفا منه ؛ ليعلم أنه منشئ الكيفيات والماهيات ، وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية.
ثم قال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).
يحتمل قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أوجها ثلاثة :
أحدها : هديناه السبيل ؛ لإصلاح بدنه ومعاشه.
أو هديناه السبيل الذي يصلون به إلى استبقاء النسل والتوالد إلى يوم التناد.
أو (١) هديناه السبيل الذي يرجع إلى إصلاح دينهم ، وأمر آخرتهم باكتساب المحامد والمحاسن ، ثم قوله : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أخبر أنه قد بين لهم السبيل وهداهم إليه ،
__________________
(١) في أ : و.