فصارت الرياح مذكرات للنعم ، وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث ، وبكل ما يخبرهم به الرسل ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم ، فعلموا أن الأمر غير مقدر (١) بعقولهم ولا بحكمتهم ؛ فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض له من الشك والشبه في أمر البعث ؛ فأقسم بها ـ جل جلاله ـ على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين.
فرجعنا إلى قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) قيل (٢) : هي الرياح المبشرات ؛ سميت : عرفا ؛ لأن ما تأتى به من النعم معروفة.
وقيل (٣) : العرف : المتتابع ، وسمي عرف الفرس : عرفا ؛ لتتابع بعض الشعر على بعض ؛ فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة.
وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) جائز أن يحمل على الرياح ، لكن على الرياح المنشرات (٤) ، وهي الرياح السهلة الخفيفة ؛ لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله : وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته في بعض القراءات.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء وتقصمها ، وهي التي ترسل للإهلاك ؛ كقوله تعالى : (فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) [الإسراء : ٦٩].
وجائز أن يكون قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للهلاك أو للتبشير (٥) ؛ لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب ، وغير ذلك قبل أن تتتابع ، وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها ، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْفارِقاتِ فَرْقاً).
يحتمل الرياح ـ أيضا ـ وأنما سميت : فارقات ؛ لأنها تفرق السحاب ؛ فيصير البعض في أفق ، والبعض في أفق أخرى.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) :
__________________
(١) في أ : مقدور.
(٢) قاله ابن مسعود بنحوه أخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير (٣٥٨٨٠ ، ٣٥٨٨٢) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق أبي العبيدين عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٤٩٢) ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وغيرهم.
(٣) قاله صالح بن بريدة أخرجه ابن جرير عنه (٣٥٨٩٤).
(٤) في أ : المبشرات.
(٥) في ب : للتسيير.