ثم اختلفوا بعد هذا :
فمنهم (١) : من يحمله على التحقيق ؛ فيزعم أن النفخة الأولى يهلك بها الخلق ، والنفخة الثانية يحيا بها الخلق.
ومنهم من ذكر أن النفخات ثلاث (٢) : فالنفخة الأولى ؛ للتفزيع والتهويل ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ..). الآية [الحج : ١ ، ٢] ، والنفخة الثانية يهلك بها الخلق بقوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ..). الآية [النمل : ٨٧] ، والنفخة الثالثة يحيا بها الخلق بقوله : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨].
ومنهم من ذكر أن هذا ليس على تحقيق النفخ ؛ بل على التمثيل ، فمثل به إما لخفة البعث والإحياء على الله ـ تعالى ـ وسهولته كخفة النفخ على النافخ.
أو مثل به ؛ لسرعته ؛ كما قال تعالى : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧].
وقالوا : الرجفة : هي الزلزلة ، والتحرك ، (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي الزلزلة الأخرى.
ثم إن كان القسم على إثبات البعث ، ففيها ذكر إشارة إلى أحوال البعث وأفعالها ، وإن كان موجفة ، على قوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ. قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) فكأنهم سألوا : كيف تكون القلوب في ذلك اليوم؟ فقال : تكون واجفة ، والواجفة : الخائفة الوجلة.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) ، أي : ذليلة.
ووجه تخصيص الأبصار والقلوب ـ والله أعلم ـ : هو أنه لا يتهيأ لأحد استعمال قلبه وبصره ، بل يحدث للقلوب فكر وبدوات لا يمكنه أن يدفع (٣) عنها الفكر ، وكذلك هذا في البصر ؛ فيخبر أن ما نزل بهم من الخوف والهيبة يمنع (٤) القلوب والأبصار عن عملها ؛ فلا تنظر إلا إلى الداعي ، ولا يحدث للقلوب فكر ، بل تكون الأفئدة هواء ، لا تقر ؛ لشدة ما حل بها [من الخوف](٥) ؛ إذ (٦) المرء إذا أحزنه أمر فهو يعمل أنواعا من الحيل ويوقع
__________________
(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٣٦١٩٩ ، ٣٦٢٠٠) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق علي عنه كما في الدر المنثور (٦ / ٥١٠).
(٢) روي في معناه حديث عن أبي هريرة أخرجه ابن جرير عنه (٣٦٢٠٣).
(٣) في ب : يرفع.
(٤) في ب : منع.
(٥) في ب : والثاني.
(٦) في أ : أن.