عنه عمدا لذلك ، لكن لما قطع عليه حديثه ، وكان فيه قطع رجاء إسلام أولئك القوم ، شق ذلك عليه ، واعتراه (١) من ذلك هم شديد ، أثر ذلك في وجهه ، لا أن كان منه ذلك على القصد.
[ووجه آخر](٢) أن يقال : إن الله ـ تعالى ـ جعل في قلبه صلىاللهعليهوسلم من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته (٣) أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين الله ـ تعالى ـ والإيمان به حسرات عليه ، وحتى قيل له : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل : ١٢٧] ، وقال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨].
وتأويله : ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن ؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه ، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة ؛ ولذلك قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) [التحريم : ١] ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك الانتفاع به ؛ طلبا لمرضاتهن ، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن ؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) الآية [الأحزاب : ٥١] ، فجائز أن يكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم اشتد عليه إعراض أولئك القوم عن الإيمان ، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه ؛ فظهرت عبوسة وجهه ؛ فنزل قوله ـ تعالى ـ : (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه ، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له.
ثم في هذه الآية فوائد أخر :
إحداها : جواز العمل بالاجتهاد ؛ لأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعل هذا النوع من العمل اجتهادا ، لا نصا ؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا ، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به.
فإن قيل : كيف لا تدل المعاتبة على النهي [عن إقدامه على](٤) مثله ؛ فيحرم عليه الاجتهاد؟
قيل له : لو كان هذا نهيا ، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك ، وقد وجد منه ـ عليهالسلام ـ العود ؛ لقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] ، وبقوله :
__________________
(١) في ب : فاعتراه.
(٢) في ب : وجه أخرى.
(٣) في ب : شفقة.
(٤) في أ : على إقدامه.