جريرته ، فتجاوزه (١) عنه أو تأخيره العقوبة ، حمله على الاغترار ؛ إذ ظن أنه يعفى عنه أبدا كذلك ؛ فأقدم عليها ، وإلا لو حلت به العقوبة وقت ارتكابه المعصية ، لكان لا يتعاطى المعاصي ، ولا يرتكبها ، فعذره أن يقول : الذي حملني على الإغفال والاغترار كرمك أو حمقي ، كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين تلا هذه الآية : «الحمق يا رب» (٢).
أو يكون قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) أي : أي شيء غرك حتى ادعيت على الله تعالى أنه أمرك باتباع آبائك؟! أو تشهد عليه إذا ارتكبت الفحشاء أن الله تعالى أمرك به ؛ على ما قال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا) [الأعراف : ٢٨] ، ألم أبعث إليك الرسول؟! ألم أنزل إليك الكتاب فتبين لك ما أمرت به عما نهيت عنه؟!.
وقيل : نزلت الآية في شأن كلدة ؛ حيث ضرب النبي صلىاللهعليهوسلم ؛ فلم يعاقبه الله ـ تعالى ـ فأسلم حمزة حمية لقومه ؛ فهمّ كلدة أن يضربه ثانية ؛ فنزلت الآية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) حيث لم يهلكك عند تناولك رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
لكن لو كانت الآية فيه فكل الناس في معنى الخطاب على السواء ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) ففي ذكر هذا تعريف المنة ؛ ليستأدي منه الشكر.
وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر ، ولا يجري عليها سلطانهم ؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته.
وفيه ذكر حكمته وعلمه ؛ ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى ؛ لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجوه (٣) لا يعرفها الخلق ، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا ؛ بل خلقهم ليأمرهم وينهاهم ، ويرسل إليهم الرسل ، وينزل عليهم الكتب ؛ فيلزمهم (٤) اتباعها ، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها ، وتركوا اتباعها ، وسنذكر وجه التسوية (٥) في قوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) [الأعلى : ٢] : أنه سواه على ما توجبه الحكمة.
أو سواه بما به مصالحه.
__________________
(١) في ب : فتجاوز.
(٢) أخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر كما في الدر المنثور (٦ / ٥٣٤).
(٣) في ب : وجه.
(٤) في ب : فلزمهم.
(٥) زاد في أ : به.