فهذه أعلام أهل الشقاء ، وفيما ذكر اسوداد الوجوه قرن به التكذيب بقوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران : ١٠٦] ، وفيما ذكر دفع الكتاب بالشمال ومن وراء الظهور ، قال فيه : (فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة : ٣٢ ، ٣٣] ، وقال : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) إلى قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ. بَلى ..). الآية [الانشقاق : ١٠ ـ ١٥] وقال ـ تعالى ـ عند ما ذكر خفة الميزان : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) [المؤمنون : ١٠٥] ، ولم يذكر عند ذكر شيء من هذه الأعلام غير المكذبين ، فثبت أن الوعيد في المكذبين لا في غيرهم ؛ لذلك لم يسع لنا أن نشرك أهل الكبائر مع أهل التكذيب في استيجاب العقاب ، وقطع القول بالتخليد ، بل وجب الوقف في حالهم والإرجاء في أمرهم.
والثاني : ذكر في مواضع الإيمان بالله ـ تعالى ـ أدنى مراتب أهل الإيمان ، ووعد عليه الجنة ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩] ، وقال في موضع آخر : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) [الحديد : ٢١] ، وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ..). الآية [النساء : ١٥٢] ، فذكر في هذه الآيات التي تلوناها أدنى منازل أهل الإيمان ، وذكر في موضع آخر أعلى مراتب أهل الإيمان ، ووعد عليها الجنة بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ ..). الآية [العصر : ٣] ، وقال : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ..). الآية [البقرة : ١٧٧] ؛ فجائز أن يكون ذكر الجميع على المبالغة لا على جعله شرطا ؛ فيجب القول باستيجاب الوعد بأدنى مراتبه ، على ما ذكر في الآيات الأخر.
وجائز أن يكون الجميع (١) فيما ذكر فيه الإيمان بالله ورسله مضمرا ، ويكون ذكر طرفا منه على الإيجاز ؛ ألا ترى أنه ذكر الكفر في بعض المواضع ، وأوعد عليه النار ، وذكر في بعض المواضع الكفر مع أسباب أخر ، وأوعد عليه النار بعد ذلك بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ..). الآية [البقرة : ٦١] ، وقال في موضع آخر : (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ. وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ..). الآية [المدثر : ٤٣ ، ٤٤] ، ثم لم يصر جميع ما ذكر من السيئات مع الكفر شرطا ، بل وجب القول بالتخليد لمن اقتصر على الكفر خاصة ؛ فثبت أن ليس في ذكر المبالغة دلالة جعل المبالغة شرطا ، بل جائز أن يستوجب الوعيد بدونه ؛ فلذلك لم يقطع القول في أصحاب الكبائر بالتخليد في النار ، ولا بأنهم مستوجبون للوعد ؛ بل قيل فيهم بالإرجاء.
__________________
(١) في ب : الجمع.