وقوله ـ عزوجل ـ : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) ، قال بعضهم (١) : تأويله منصرف إلى أهل النار وأهل الجنة ؛ فأهل الجنة لا يغيبون عن الجنة ، ولا أهل النار عن النار.
وقال بعضهم : أريد بها أهل النار خاصة : أنهم لا يغيبون عنها.
وأنكر بعض الناس الخلود لأهل النار في النار ، ولأهل الجنة في الجنة ، وقالوا : لو لم يكن لنعيم الجنة انقضاء ، ولا لعذاب الآخرة انتهاء ، لكان يرتفع عن الله ـ تعالى ـ الوصف بأنه أول وآخر ؛ لأنهما يبقيان أبدا ؛ فلا يكون هو آخر ، وقد قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد : ٣] ؛ فلا بد من أن يكون لهما انتهاء حتى يستقيم الوصف بأنه آخر.
ولأنهما لو لم يوصفا بالانتهاء لكان علم الله ـ تعالى ـ غير محيط بنهايتهما ، فتكون النهاية مجاوزة لعلمه ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ محيط بالأشياء وعالم بمبادئها ومناهيها ؛ فلا بد من القول بفنائهما حتى يكون علمه محيطا بهما.
ولأنهم إنما استوجبوا الجزاء بأعمالهم ، وأهل النار استوجبوا العقاب بسيئاتهم ، فإذا كانت لسيئاتهم نهاية ، ولخيرات أولئك نهاية ، فكذلك يجب أن يكون للجزاء نهاية أيضا.
والأصل عندنا : أن كل من اعتقد مذهبا فهو يعتقد التدين (٢) به أبدا ما بقي ، لا يتركه (٣).
ثم العقاب جعل جزاء للكفر ، والثواب جعل جزاء للاتقاء عن المهالك بقوله : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] ، وقال : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، فإذا ثبت أن كل واحد منهما جزاء للمذهب ، وكان الاعتقاد للأبد ؛ فكذلك جزاؤه يقع للأبد والدوام ، لا للزوال والانقطاع.
والثاني : أن العلم بزوال النعيم مما ينغص النعمة على أربابها ، ويمرر عليهم لذاتها ، ويكدر عليهم ما صفا منها ، فإذا كان كذلك لم يتم لهم النعيم ، وأهل النار إذا تذكروا الخلاص من العذاب ، تلذذوا بها ، وهان عليهم العذاب ؛ فوجب القول بالخلود ؛ ليتم النعيم على أهله والعذاب على أهله.
والجواب عن قوله : إنه يرتفع عنه الوصف ؛ لأنه أخبر : أن الله ـ تعالى ـ استوجب الوصف بأنه أول وآخر بذاته لا بغيره ، وغيره يصير أولا وآخرا بغيره ، ثم ما من شيء إلا وله أول وآخر ، ثم لا يوجب ذلك إسقاط الأولية والآخرية عنه.
وقوله بأن بالله ـ عزوجل ـ لا يوصف بالإحاطة بالأشياء لو وجب القول بالخلود ، فنقول بأن العلم بما لا نهاية له هو أن يعلمه غير متناه ، والعلم بالتناهي بما لا نهاية له
__________________
(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٢ / ٤٨١).
(٢) في ب : التبيين.
(٣) في ب : ليتركه.