والاختراع من ذات نفسه ، فأخبر أن اليتيم والفقير ليس يبلغ في العلم والمعرفة المبلغ الذي يقدر على الاختراع وإنشاء الشيء من نفسه على وجه يعجز عن مثله جميع الخلق ؛ لما لا يجد ما ينفق في ذلك ، ويتحمل من المؤن حتى يبلغ مبلغ الاختراع ، وكذلك ما ذكر حيث قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ..). الآية [العنكبوت : ٤٨] ؛ لأنهم قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، والبشر إنما يتعلمون بالكتابة والخط ، فإذا لم يكن لرسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ شيء من ذلك ؛ دلّ أنه بالله ـ تعالى ـ عرف وحده.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) ، أي : وجدك يتيما فآواك.
ثم يحتمل قوله : (فَآوى) وجوها :
أحدها : وجدك يتيما فآواك إلى [عمك حتى رباك](١) ودفع عنك كل أذى وآفة ، وساق إليك كل خير وبر ، إلى أن بلغت المبلغ الذي بلغت.
والثاني : يقول : قد وجدك يتيما فآواك إلى عدو من أعدائك حتى تولى تربيتك وبرك ، وعطف عليك ، وتولى عنك دفع المكروه والأذى ، يذكر منته وعظيم نعمه عليه أنه كان ما ذكر ، ثم صير عدوا من أعدائه أشفق الناس عليه وأعطف ، والله أعلم.
والثالث : قد وجدك يتيما فآواك إلى نفسه ، وعطف عليك حتى اختصك واصطفاك للرسالة والنبوة ؛ حتى صرت مذكورا في الدنيا والآخرة ، وحتى أحوج جميع الناس إليك ، وليس ذلك من أمر اليتيم أنه يبلغ شأنه وأمره إلى ما بلغ من أمرك وشأنك حتى صرت مخصوصا من بين الناس جميعا ، فيما ذكرنا من اختصاصه إياك بالرسالة ، وأحوج جميع الناس إليك ؛ يذكر عظيم مننه ونعمه عليه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) هذا يخرج على وجوه :
أحدها : يقول ـ والله أعلم ـ : لو لا أن الله تعالى هداك لدينه ، ووفقك له ، وإلا وجدك ضالا ؛ إذ كان نشوؤه بين قوم ضلال ، لم يكن أحد يهديه ويدعوه إلى الله تعالى ، ولكنه هداك وأرشدك ، فلم يجدك ضالا ، وهو كقوله ـ تعالى ـ : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ..). [آل عمران : ١٠٣] ، أي : لو لا أنه أنقذكم منها ، وإلا صرتم على شفا حفرة من النار لو لم ينقذكم منها ، وكقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] ؛ لأن البشر أنشئ وطبع على الركون والميل إلى النعم العاجلة ،
__________________
(١) في ب : ملك حتى رآك.